المحاضرة الرمضانية التاسعة للسيد عبدالملك بدر الدين الحوثي 1443 هـ -2022م
أَعُـوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ
بِـسْـــمِ اللهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ
الحمدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهَدُ أنَّ سيدَنا مُحَمَّــداً عبدُهُ ورَسُــوْلُه خاتمُ النبيين.
اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين والمجاهدين.
أيُّها الإخوة والأخوات
السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛
اللهم اهدنا، وتقبَّل منا، إنك أنت السميع العليم، وتب علينا، إنك أنت التواب الرحيم.
من فوائد الصيام في شهر رمضان المبارك المساعدة على التقوى، وتحقيق هذه الثمرة العملية للصيام، هي: الصبر، الصبر الذي نكتسبه من خلال الصيام في تحملنا في التحمل والعزم المكتسب تجاه متاعب الظمأ والجوع، وتجاه السيطرة على شهوات النفس من جانبٍ آخر، فنحن نتعوَّد من خلال الصيام على التحمل، التحمل النفسي في السيطرة على شهوات النفس، والتحمل البدني في التحمل على عناء الجوع والظمأ بحسب الأحوال المختلفة.
الصبر هو عنوانٌ مهمٌ، وهو من لوازم النجاح والفلاح في كل الأمور المهمة، وهو لدى البعض عنوانٌ مزعج، يقترن به على الدوام شبح المعاناة والمشقة، عندما يسمع كلمة (صبر)، وكأنها ترادف (مر).
الصبر لا بدَّ منه مع العمل، وهو شيءٌ واقعيٌ وقائمٌ في حياتنا جميعاً، الجميع في شؤونهم المعيشية، في ظروف حياتهم المختلفة، ولربما قد تكون بشكلٍ شبه يومي، على نحوٍ مستمر يواجه الناس في العادة ما يحتاجون فيه إلى الصبر، إلى التحمل، وهذه مسألة معروفة لدى الإنسان، لدى الناس في مختلف ظروف حياتهم.
المزارع وهو يعمل يدرك أنه لا بدَّ من الصبر، بل يستحلي عواقب الصبر، عندما يصل- في نهاية المطاف- إلى النتائج الطيِّبة لجهوده وصبره، فيحصل بعد جهدٍ وبعد صبرٍ معين يصل إلى أن يجني ثمار ذلك الجهد، فيما يحصل عليه نتيجة جهوده من زراعته ومن أموال.
التاجر كذلك، العامل، الإنسان في ظروفه المعيشية وهو يسعى لتوفير متطلبات حياته، يدرك ذلك، الإنسان يصبر ويتفاعل بقدر ما يؤمن بالقضية التي يصبر من أجلها، بقدر ما تمثله من أهميةٍ بالنسبة له، سواءً على المستوى المعيشي، أو على مستوى أوسع من ذلك، المسألة مرتبطة بدرجةٍ أساسية بقدر ما يتفاعل الإنسان ويؤمن بالقضية التي يصبر من أجلها.
على المستوى الإيماني: الصبر من لوازم الإيمان، هو منه بمنزلة الرأس من الجسد كما ورد في الأثر، وهو أيضاً وسيلةٌ مساعدةٌ على العمل الصالح، ولهذا يأتي في القرآن الكريم في المواصفات الأساسية للمؤمنين المتقين: {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ}[البقرة: من الآية177]، فالصبر هو صفة أساسية لديهم، وهو وسيلة- في نفس الوقت- لتجاوز كل تلك الصعوبات، {فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ}.
يقول الله “سبحانه وتعالى” أيضاً: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[آل عمران: الآية200]، فيأتي التوجيه من الله “سبحانه وتعالى” إلى الذين آمنوا، من موقع انتمائهم الإيماني؛ لأنه في الأعمال الإيمانية، في الالتزامات الإيمانية، في المسؤوليات الإيمانية لا بدَّ من الصبر.
يأتي أيضاً قوله “سبحانه وتعالى”: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}[البقرة: الآية153]، فالصبر وسيلة أيضاً تساعدنا على أداء أعمالنا، والنهوض بمسؤولياتنا، وسيلة مساعدة، والصبر في الأساس هو قضية نفسية، قوة إرادة، وعزم، ومعنوية، وتحمل، هذا كله مبنيٌ على مدى إيمانك- كما قلنا- بالقضية التي تصبر من أجلها.
مثلاً: في الأمور المعيشية الناس يعتبرون الأمور الضرورية التي لا بدَّ منها لحياتهم، لمعيشتهم، يرون فيها دافعاً كافياً لأن يصبروا، ولأن يتحملوا، ويستحلون النتائج التي تنتج عن ذلك فيما يتحقق لهم، وبقدر ما يتحقق لهم، كلما كان رضاهم عن جهدهم، عن صبرهم، أكثر وأكثر، وهكذا على مستوى شؤون الحياة كافة، طموحات البشر في حياتهم، متطلباتهم وآمالهم في حياتهم، وما يصلون إليه، وما يتحقق لهم في شؤونهم السياسية والاقتصادية… ومختلف شؤونهم.
فالصبر في ميدان العمل، والنهوض بالمسؤولية، والتزام طاعة الله “سبحانه وتعالى”، والسيطرة على هوى النفس، لا بدَّ منه في انتمائنا الإيماني، وهو أمرٌ بديهي، وأمرٌ طبيعي، طالما الإنسان يصبر في كل الأمور، ليس معناه: أنَّ هناك اتجاهٌ في الحياة لا تحتاج فيه إلى الصبر على شيء، ولا تواجه فيه المتاعب النفسية أو البدنية في شيء، الصبر لا بدَّ منه، ولذلك في الاتجاه الإيماني لا تزال العوامل المساعدة أكثر من غيره، أكثر من غيره، الحوافز المعنوية أكثر من غيره، النتائج المرجوة أكثر من غيره؛ فبالتالي يفترض في الاتجاه الإيماني أن يكون الإنسان مقرراً للصبر، موطناً نفسه على الصبر، متجهاً للصبر، وأن يتخذ قراراً حاسماً بذلك، عندما يتجه الإنسان الاتجاه الإيماني في مسيرة حياته، ليوطن نفسه على الصبر، وليتخذ قراره الحاسم بذلك، هذه مسألة أساسية، الله “سبحانه وتعالى” يقول: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}[آل عمران: من الآية186]، في وصية لقمان لابنه أيضاً: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}[لقمان: من الآية17]، فهي من الأمور المعزومة، المحسومة، التي لا بدَّ منها، الأساسية المهمة، والبديهية والطبيعية في نفس الوقت، ليست كارثة.
وفي مجال الصبر فتح الله لنا المجال للعودة إليه، للالتجاء إليه، للاستعانة به، {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ}[النحل: من الآية127]، تستطيع أن تعود إلى الله “سبحانه وتعالى”، وأن تستمد منه أن يفرغ عليك المزيد من الصبر، {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا}، تتفاوت المتاعب والظروف التي نصبر فيها، فنحتاج في بعضٍ منها أيضاً إلى المزيد والمزيد من الصبر، وقد تضيق نفس البعض في ذلك، الله فتح المجال على الدوام للاستعانة به، {وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ}[النحل: من الآية127]، تحتاج، أنت تحتاج إلى الله “سبحانه وتعالى” في ذلك، وفي الأدعية المهمة في القرآن الكريم: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}[البقرة: من الآية250]، في ميدان الجهاد، في ميدان الثبات على الإيمان، على الحق، {وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ}[الأعراف: من الآية126].
الصبر في الواقع الإيماني له علاقةٌ بالتوكل على الله “سبحانه وتعالى”، والثقة به “جلَّ شأنه”، الإنسان عندما يطمئن ويثق بالنتائج المرجوة التي وعد الله بها الصابرين، ينطلق فيصبر؛ لأنه واثق، لأنه مطمئن، لأنه على يقينٍ من أنه سيصل إلى تلك النتائج المرجوة العظيمة، فصدق التوكل ينتج عنه أيضاً الصبر، والتحمل؛ لأنك واثقٌ من النتيجة التي وعدك الله بالوصول إليها.
نجد في مسيرة حياتنا، في ظروف حياتنا، الفارق الكبير مثلاً بين العامل الذي هو واثقٌ بأن ذلك الذي يعمل معه سيسدده أجرته بشكلٍ كامل، وبدون أي مماطلة، وربما يزيده مكافآت إضافية على ذلك، وبين العامل الذي ليس واثقاً بأنه سيحصل على أجرته، وقد يتوقع أن يماطله ذلك الذي يعمل معه، أو قد يتنكر له وينكره، ويجحده حقه، فإذا أدَّى العمل، فيؤديه وهو في حالة من التردد، والاضطراب، وغير الاطمئنان، وبدون جد في العمل، على نحوٍ مختلف.
ففي الاتجاه الإيماني المؤمنون يتوكلون على الله، ويثقون، يثقون بالنتائج المرجوة التي وعد الله بها الصابرين، ولذلك يقول الله عنهم: {الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}، هم يدركون قيمة صبرهم، نتائج صبرهم، ثمرة صبرهم، ليسوا يائسين، أو مترددين في جدوائية صبرهم، {وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ}[الرعد: من الآية22].
عندما نأتي إلى الغايات المرجوة من الصبر، والنتائج المهمة، التي تحدث عنها الله في القرآن الكريم، ووعد بها الصابرين في القرآن الكريم من عباده المؤمنين، نجد الكثير الكثير مما يحفزنا جدًّا على الصبر:
في بداية القائمة: معية الله “سبحانه وتعالى”، الله “جلَّ شأنه” يقول لعباده المؤمنين: {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}[الأنفال: من الآية46]، وهذا جامعٌ لكل خير، جامعٌ لكل فلاح، جامعٌ لكل نجاح، أساسٌ مهمٌ جدًّا لكل الغايات المرجوة، {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}، معهم، هو يعلم بأحوالهم، بمعاناتهم، بظروفهم، وهو المعين لهم، المؤيد لهم، المثبت لهم، الموفق لهم، الذي سيتولاهم برعايته الواسعة، سيحقق لهم في الأخير النتائج العظيمة، والغايات المرجوة، {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}، والإنسان لو لم يعتد بمعية الله، لم يحسب معية الله، فلم يصبر، فتراجع عن التزامه الإيماني، أو عن عمله في سبيل الله “سبحانه وتعالى”، فهي حالة سيئة جدًّا، حالة بعيدةٌ كل البعد عن التقوى، ولا تنسجم أصلاً مع الإيمان، فكيف يفترض أن يكون الإنسان في مدى صبره، وهو يشعر أن الله معه، أنه ليس بمفرده في مواجهة المتاعب، والصعوبات، والتحديات، والمخاطر، أن الله معه، هو سنده، هو ملاذه، هو ملجؤه، هو نصيره، هو معينه؟ للمسألة أهمية كبيرة جدًّا على المستوى المعنوي، والصبر هو حالة معنوية في المقدِّمة.
مما وعد الله به الصابرين: محبته، وتكرر في القرآن الكريم قوله “سبحانه وتعالى”: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ}[آل عمران: من الآية146]، وهذا مكسبٌ كبير، مكسبٌ عظيم، أن تحظى أنت أيها الإنسان العبد الصغير الحقير الفقير بمحبة الله “سبحانه وتعالى”، ربِّ السماوات والأرض، ملك السماوات والأرض، الملك لهذا الكون بكله، المدبر لشؤون السماوات والأرض، الله “سبحانه وتعالى” ربنا العظيم، إلهنا العظيم، تحظى أنت بمحبته، وأن تكون في عداد أوليائه، بما يترتب على ذلك من الشرف الكبير، وبما يترتب على ذلك من الرعاية الواسعة، والتدبير الذي هو وفق محبة الله “سبحانه وتعالى”، من منطلق محبته لك، كم يترتب على المحبة من الله “سبحانه وتعالى” من النتائج العظيمة، في رعايته الواسعة، ومن الشرف الكبير.
أيضاً مما وعد الله به: الأجر العظيم، الذي يدخل تحته الشيء الكثير في الدنيا والآخرة، الله “سبحانه وتعالى” يقول في القرآن الكريم: {وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[النحل: من الآية96]، فالله “سبحانه وتعالى” لا يضيع معاناتك، لا يضيع جهدك الذي صبرت عليه، وصبرت فيه؛ إنما هو كله محسوب، لا يخفى على الله “سبحانه وتعالى” منه شيء، فتذكر هذا، تذكر إذا شعرت بشيءٍ من الملل، أو بشيءٍ من الضيق، أو بشيءٍ من التعب، أو بشيءٍ من التردد، أن جهدك لن يضيع، أن عناءك في طاعة الله “سبحانه وتعالى”، في سبيله لا تضيع، بل الله “سبحانه وتعالى” سيوفيك أجرك، وستحظى منه بالأجر العظيم، والمكافأة الكبيرة، هو يعلم بكل أحوالك، هو القائل “جلَّ شأنه”: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}[الزمر: من الآية10]، فالأجر على الصبر أجرٌ عظيمٌ وواسعٌ جدًّا، ويفوق كل تخيل، {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}، مثلما يقولون: [رصيد مفتوح] للصابرين، هذا أجر عظيم جدًّا، يفوق كل تخيلٍ.
تأتي أيضاً على المستوى العملي في النتائج العاجلة المرجوة في الدنيا في النجاح في الأعمال مرتبطةً بالصبر، في ميدان الجهاد في سبيل الله، والتصدي للأشرار والطغاة، في إطار تحرك المؤمنين في أداء مسؤولياتهم ليكونوا أمةً حرةً، عزيزةً، مستقلةً، متحررةً من سيطرة أعداء الله، متحررةً من سيطرة الطغاة الظالمين الجائرين المفسدين في الأرض، لا بدَّ من الصبر؛ لكي تنتصر، أي أمة تتحرك على هذا الأساس، تريد أن تكون حرةً على أساسٍ من هدي الله “سبحانه وتعالى” وانتمائها الإيماني، فيأتي الوعد من الله “سبحانه وتعالى” مقترناً بالصبر، {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ}[الأنفال: من الآية65]، تأتي الغلبة في الميدان مرتبطةً بمدى الصبر، بمدى الصبر.
في التصدي لكل مؤامرات الأعداء ومكائدهم، وكل أشكال عدوانهم، لا بدَّ من الصبر، وتقوى الله “سبحانه وتعالى” في فعل ما ينبغي، {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا}[آل عمران: من الآية120]، صبر مع العمل، مع التقوى، مع فعل ما ينبغي، ما يلزم في إطار المسؤولية، {لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا}[آل عمران: من الآية120]، تسقط- في نهاية المطاف- كل مؤامراتهم ومكائدهم، وتتلاشى، ولا تحقق النتائج التي أرادها الأعداء من ورائها.
يقول الله “سبحانه وتعالى” أيضاً: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}[البقرة: من الآية249]، فارتبط ذلك واقترن بمدى الصبر.
في الحصول على المدد الإلهي- كذلك- لا بدَّ من الصبر، {بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ}[آل عمران: الآية125]، كان هذا الوعد الإلهي للمؤمنين مع رسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله” مرتبطاً بالصبر نفسه.
في الغاية العامة التي تعبِّر عن كل نجاح، عن الظفر بالخير، عن الوصول إلى النتائج العظيمة والمهمة، مضى قوله “سبحانه وتعالى”: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}، فقوله “جلَّ شأنه”: {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}، يعبِّر عن الوصول إلى النتائج العظيمة، عن العبور لتلك الظروف الصعبة والحساسة، والوصول إلى نتائجها المرجوة التي وعد الله بها، الوصول إلى النصر في ميدان الجهاد، الوصول إلى النتائج العظيمة على المستوى المعنوي، على مستوى ما يتحقق في الواقع، النتائج المهمة، ثم النتائج الكبرى والعظيمة في الآخرة، {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.
كذلك فيما يتعلق أيضاً بالفوز برضوان الله وجنته، والسلامة من عذابه، وهي الغايات الكبرى للإنسان المؤمن، لا بدَّ فيها من الصبر، ويتجلى في يوم القيامة وفي الجنة أيضاً القيمة العظيمة للصبر، تتجلى القيمة العظيمة للصبر، وحسن نتائجه العجيبة، والعظيمة، والمهمة، والكبيرة.
الله “سبحانه وتعالى” يقول مخاطباً لأهل النار، وهو يبين لهم كيف فاز أولياؤه، كيف فاز المؤمنون الصادقون الذين استجابوا له، بالرغم مما واجهوه في هذه الحياة (في الحياة الدنيا) من محاربة، من سخرية، من استهزاء، من عداء، من مشاق وصعوبات معينة، وتحديات معينة، فيقول الله “جلَّ شأنه”: {إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ}[المؤمنون: الآية111]، نتيجة عظيمة جدًّا، {إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا}، بصبرهم، صبروا على السخرية، على الاستهزاء، على الدعايات، على المحاربة بكل أشكالها، على مواجهة الصعوبات والتحديات بكل أنواعها، لكن في الأخير فازوا، تحققت لهم أعظم نتيجة، تحقق لهم الفوز العظيم، الذي لا يماثله شيءٌ أبداً، {أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ}.
وحتى في تهنئة الملائكة للمؤمنين في قصورهم في الجنة، في مساكنهم في الجنة، بعد وصولهم إليها، وهي لحظات عجيبة جدًّا، أوقات عجيبة جدًّا، يعيشون فيها الفرحة الكبرى، والسعادة العظيمة جدًّا، بعد أن وصلوا إلى قصورهم في الجنة، ومساكنهم الطيِّبة في الجنة، فيقوم الملائكة بالزيارة لهم إلى مساكنهم في الجنة، يهنئونهم، ويباركون لهم بما وصلوا إليه، بهذا المستقر العظيم، {وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ}[الرعد: من الآية23]، أفواج كبيرة من الملائكة تزورهم إلى كل منازلهم، {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ}[الرعد: الآية24]، فهم يقولون لهم في السَّلام عليهم، في التهنئة لهم: أنَّ هذا هو نتيجة صبركم، فلاحظوا كيف كانت نتيجةً عظيمة، {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ}، وصلتم إلى جنة الله، إلى السعادة الأبدية، إلى الحياة الهنيئة.
فالإنسان يرى حينها أنَّ كل عناءٍ يمكن أن يكون قد مرَّ به على المستوى النفسي، أو على المستوى الجسدي، هو لا شيء في مقابل تلك النتيجة العظيمة التي تحققت، والمكسب الكبير العظيم الذي ظفر به، وفاز به.
يقول الله “سبحانه وتعالى”: {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا}[الإنسان: الآية12]، وتأتي التفاصيل في سورة الإنسان التي تتحدث عن ذلك.
فنجد كل هذه النتائج العظيمة الكبرى مغريةً على الصبر، مغريةً على الصبر، ونرى الصبر مسألةً طبيعية في ظروف هذه الحياة، ضمن الممارسات الاعتيادية التي يتمرن عليها الإنسان، بل إنه حتى قد يعتاد على الكثير من الأمور، يحتاج إلى الصبر في بدايتها، ثم فيما بعد ذلك يعتاد عليها، يكتسب قوة العزم، قوة الإرادة، قوة التجلد، قوة التحمل، وهذه مسألة واضحة في ظروف الناس وفي حياتهم، نجد الأكثر عطاءً الأكثر عملاً، الأكثر جهداً، والمستمرين على ذلك، قد تروَّضوا على القيام بالأعمال الكثيرة، والأعمال المهمة، إلى درجة أنهم لو تعطَّلوا عن ذلك سيشعرون من الفراغ، من القعود، من الجمود، بالملل، بالسآمة، بالضجر الشديد، أصبحوا يستحلون العمل والجهد، وأصبحوا في مستوى قدرتهم على العمل، جهدهم، تحملهم، متمرسين، متروِّضين، معتادين على الأعمال التي قد تصعب على الكثير من الناس الآخرين، الذين لم يتعودوا، لم يتمرَّنوا، لم يتروَّضوا على القيام بالأعمال.
عندما نأتي إلى الصبر كحالة قائمة في حياة البشر فيما يتعلق بالجوانب الإيمانية والعظيمة والمهمة، نجد النموذج العظيم في سيرة الأنبياء “عليهم الصلاة والسلام”، بدءاً من رسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله”، الذي تكرر الأمر له بالصبر في القرآن الكريم، فصبر، واستجاب لله “سبحانه وتعالى”، صبر على أرقى مستوى، على مستوى راقٍ وعظيم، وتحمل الشيء الكثير؛ فوصل إلى مستويات عظيمة، وحقق النتائج الكبيرة.
يقول الله له في القرآن الكريم: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ}[القلم: من الآية48]، وهو يتحرك في الدعوة إلى الله، وفي تبليغ الرسالة، وفي إقامة دين الله، وفي هداية عباد الله، فيواجه بدءاً من مجتمع مكة- المجتمع الأول الذي تحرك فيه- التكذيب، والتهديد، والصد، والمعارضة، والدعايات الكاذبة، والتشويه، والسب… وكل أشكال المحاربة الدعائية والإعلامية، والتشكيك في كل ما يأتي به، وفي صحة رسالته… إلى غير ذلك، محاربة شرسة جدًّا، وإساءات بالغة، واستفزازات يومية، وإساءات متنوعة، ومضايقات كبيرة، فالله “سبحانه وتعالى” يقول له: {فَاصْبِرْ}، اصبر واستمر، واصل مشوارك، واصل عملك، فصبر “صلوات الله عليه وعلى آله”، {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ}، الذي استعجل.
نبي الله يونس “عليه السلام” الذي استعجل وغادر قومه قبل أن يكمل دوره في تبليغ الرسالة إليهم، ضاق من تكذيبهم، ووصل إلى اليأس من استجابتهم، تصور أنه قد أكمل ما عليه، وأدَّى ما عليه فذهب، فكانت قصته المعروفة في القرآن الكريم، عندما ركب في السفينة في البحر، ثم حصل أن ألقي في البحر، وابتلعه الحوت، ثم فرَّج الله عنه، وعاد لأداء مهمته، لكنه حصل له ما حصل نتيجةً لأنه لم يصبر بالمستوى المطلوب في الاستمرارية حتى يأذن الله له، فاستعجل قبل ذلك.
فالله يقول للنبي “صلوات الله عليه وعلى آله”: {فَاصْبِرْ}، يقول له: {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ }[يونس: من الآية109]، استمر، وواصل مسؤوليتك، والتزم بهذا: {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ}، اتبعه، حتى لو واجهت على ذلك الانتقادات، والإساءات، والحرب الدعائية، والحرب العسكرية… وكل أشكال المحاربة، لا يثنك ذلك، لا يصدك ذلك عن إتِّباع ما أوحى الله إليك، اصبر على ذلك، على كل ما تواجهه نتيجةً لذلك، {حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ}، اصبر وستأتي النتيجة، سيأتي الفرج، الله سيحكم، مهما كان هناك من صعوبات، وتحديات، ومخاطر، ومعاناة، ومشاق، ومحاربة، ومؤامرات كثيرة، ومكر كبير من الأعداء، لكن ستصل إلى النتيجة.
يقول الله له: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ}[الروم: الآية60]، فاصبر واستمر؛ لأن الله قد وعدك، وعدك بالنصر، وعدك بتحقيق النتائج الكبيرة، {وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ}؛ لأن الذين لا يوقنون ييأسون، فيريدون التوقف في وسط الطريق، في وسط المسافة، قبل الوصول إلى النتيجة، يتململون، يضجرون، يسأمون، ييأسون، يفترون، يترددون، فتطلع لديهم المقترحات الخاطئة، التي هي في مضمونها عبارة عن التراجع، عبارة عن اليأس، عبارة عن الاستسلام، عبارة عن التوقف عن مواصلة الطريق المهم، العظيم، المقدَّس… وهكذا الذين لا يوقنون لأنهم لا يملكون اليقين؛ لم تتوفر لديهم الإرادة اللازمة للاستمرار، للتحمل، وللصبر بالتالي.
{وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ}، فيستعجلونك، يستعجلونك إمَّا للتوقف، أو يستعجلونك أيضاً لاتخاذ خطوات لم يحن وقتها بعد، أو أعمال لم يحن وقتها بعد، حالة الاستمرارية وفق هدي الله “سبحانه وتعالى”، وفق المسيرة الحكيمة في التوجيهات والهداية الإلهية، لا بدَّ فيها من الصبر، فلا يحصل التسرع الذي لا ينبغي، ولا يحصل التراجع الذي لا ينبغي.
يقول الله لرسوله “صلوات الله عليه وعلى آله”: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ}[الأحقاف: من الآية35]، حتى الرسل كان لا بدَّ لهم من الصبر، لا يمكن أن يكون هناك عمل عظيم، بنتائج عظيمة، ينال الإنسان من خلاله الشرف الكبير، والفضل الكبير، والأجر العظيم، وتتحقق له النتائج الكبيرة في واقع الحياة، في مسيرة الحياة، وتتحقق من خلاله المتغيرات التي يصنعها الله “سبحانه وتعالى”، والتحولات في الواقع إلى حدٍ كبير، من دون صبر، فالأنبياء والرسل هم القدوة في الصبر، صبروا، لم تكن المسألة: بما أنهم رسل، وبما أنهم أنبياء، أن تتحقق لهم كل النتائج دون حاجةٍ إلى الصبر، دون حصول ما يحتاجون فيه إلى الصبر، من: صعوبات، أو عناء، أو مشاق معينة، فيحظون بالدلال؛ لأنهم أنبياء، وتمشي لهم الأمور بدون أي مشقة، بدون أي عناء؛ لأنهم رسل، ولأنهم أنبياء، كان لا بدَّ لهم من الصبر على كل ما واجهوه من المعاناة في إطار مسؤولياتهم، وصبرهم كبير؛ لأن مسؤولياتهم ومهامهم عظيمة وكبيرة، والظروف التي واجهوها في واقع الحياة ليست ظروفاً عاديةً، ظروفاً كبيرة جدًّا، وتحدياتٍ كبيرة.
يأتي في القرآن الكريم على المستوى التفصيلي الإشارة إلى صبر الأنبياء، والحديث عن صبر بعضهم، وتقديم نماذج لنا نحن، نحن كمسلمين، كمؤمنين؛ لكي نستفيد منها في الصبر، يقول الله “سبحانه وتعالى” عن مجموعة من أنبيائه: {وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ}[الأنبياء: الآية85]، هؤلاء من أنبياء الله الذين صبروا، حتى أصبح الصبر صفةً من صفاتهم المستمرة والثابتة، {الصَّابِرِينَ}، أصبحوا {كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ}.
إسماعيل “عليه السلام” الذي بلغ به الصبر إلى درجةٍ عاليةٍ من الاستعداد للتضحية والصبر عليها، عندما أتى الاختبار له ولوالده إبراهيم “عليهما السلام” في قصة الذبح، قال كلمته العظيمة لوالده: {قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ}[الصافات: من الآية102]، يعني: في الصبر على الذبح، يقول لوالده: إذا صدر الأمر من الله “سبحانه وتعالى” بذبحي أنا، فسأصبر إن شاء الله، {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ}.
وهكذا يتحدث القرآن عن نبي الله يعقوب “عليه السلام” في محنته من أبنائه، في قصة ابنه نبي الله يوسف “عليه السلام”، وتكررت محنته مع أبنائه، فكان يقول لهم في كل مرةٍ منها: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ}[يوسف: من الآية18]، وصبر صبراً جميلاً، صبراً بوقار، ليس فيه كثرة التشكي، وكثرة الصراخ والصياح، {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ}.
كذلك في قصة نبي الله يوسف “عليه السلام” عندما قال لإخوته في نهاية المطاف: {قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}[يوسف: من الآية90].
في محنة أيوب “عليه السلام”، يعني: نجد الصبر تجاه الأنواع المختلفة، من المحن، من المتاعب، من الصعوبات، من المشاق، من الآلام، نجد الصبر هو المهم جدًّا في كل الأحوال المختلفة والظروف المتنوعة، أيوب “عليه السلام” في محنته الصحية والنفسية، التي كانت صعبةً جدًّا، صبر، وحظي بشهادةٍ عجيبة قالها الله عنه “سبحانه وتعالى”، يقول الله “سبحانه وتعالى”: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا}[ص: من الآية44]، هذا ثناءٌ عظيم من الله “سبحانه وتعالى”، أيوب “عليه السلام” دخل في اختبار تميز فيه وتبين فيه صبره، وخرج بنجاح من هذا الاختبار، وكان اختباراً صعباً، على مستوى معاناته الصحية في نفسه وبدنه، ولكنه صبر على شدة المحنة، شدة الألم، شدة المعاناة، طول المدة، فحظي بهذا الثناء العظيم: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ}[ص: من الآية44]، ونجد في الأخير كيف فرَّج الله عنه.
أيضاً كيف فرَّج الله عن نبيه يعقوب، كيف فرَّج عن نبيه يوسف “عليه السلام”، كيف فرَّج عن نبيه إسماعيل “عليه السلام”، وفداه بذبحٍ عظيم، تأتي النتائج نتائج طيِّبة للصبر، نتائج عظيمة، نتائج مبشرة، {نِعْمَ الْعَبْدُ} في الثناء على نبي الله أيوب “عليه السلام”، ثناء عظيم من الله “سبحانه وتعالى” أثنى عليه، ومدحه، وأشاد به، وأعطاه الجزاء العظيم، والخير الكبير في الدنيا والآخرة، {إِنَّهُ أَوَّابٌ}.
نبي الله موسى “عليه السلام” في تحمله لمسؤوليةٍ كبيرة، وقيامه بدورٍ عظيم، في إنقاذ قومه من طغيان فرعون وقومه، فيما واجهه من صعوبات وتحديات، وصلت إلى الأمر من فرعون بقتل أبناء من يؤمن بموسى “عليه السلام”، ومن يستجيب له، {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا}، الاستعانة بالله مع الصبر، {إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}[الأعراف: من الآية128]، وفعلاً بالصبر، بالاستعانة بالله، والصبر، والاستمرارية في الاستجابة العملية، تحققت النتيجة، التي لربما كان الكثير منهم يائساً من حصولها، أنقذهم الله من تلك الوضعية الصعبة، وقال في الأخير: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا}[الأعراف: من الآية137]؛ لأنهم صبروا فاستمروا في الاستجابة العملية، بالرغم من التضحية، والآلام، والمعاناة، وقتل الأبناء، واستحياء النساء، {وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ}[الأعراف: من الآية137]، فأنقذهم الله من تلك الوضعية الصعبة، وبعد مرور سنوات خرجوا إلى وضعٍ مختلفٍ تماماً، وفرَّج الله عنهم بشكلٍ تام، لكن هذا كان لابدَّ فيه من الصبر، كان لابدَّ فيه من الصبر.
الرعاية الإلهية التي تحظى الأمة المؤمنة فيها بالهداية الكبيرة، بأن يجعل الله لها دوراً بنَّاءً وعظيماً في واقع الحياة، لا بدَّ فيها من الصبر، أيضاً قال عن بني إسرائيل مع الأنبياء: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ}[السجدة: الآية24]، لما كانوا في مراحل معينة أمةً تصبر، توقن بآيات الله، الصالحون منهم، جعل الله منهم قادةً في المجتمع البشري، هداةً، يتحقق على أيديهم هذا الدور المهم جدًّا في واقع الحياة: {يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا}، لكن كل هذا كان لابدَّ فيه من الصبر، {لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ}؛ لأن اليقين أيضاً ملازمٌ للصبر، لا يستمر الصبر إلا من أهل اليقين.
في المواصفات الإيمانية يأتي الوصف للمؤمنين بالصبر؛ لأنهم يستمرون عليه، يوطِّنون أنفسهم عليه، فيقول الله عنهم: {الصَّابِرِينَ}، في مقدمة مواصفاتهم كمؤمنين متقين، {الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ}[آل عمران: الآية17]، فتأتي صفة الصبر لتتصدر قائمة المواصفات، {الصَّابِرِينَ}.
يقول عنهم أيضاً: {وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ}[الأحزاب: من الآية35]؛ لأنه لا بدَّ من الصبر للجميع رجالاً ونساءً، في الواقع الإيماني لا بدَّ من الصبر حتى على مستوى الأسرة، الصبر في التضحية، الصبر في مواجهة المعاناة والمشاق في إطار النهوض بالمسؤولية، في التزام طاعة الله “سبحانه وتعالى”، يقول عنهم {وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ}[الحج: من الآية35].
فنجد كيف هذه الصفة أساسية من الرسل والأنبياء، قال الله لنبيه: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ}[الأحقاف: من الآية35]، وصولاً إلى الواقع الإيماني، كما هي حالةٌ لا بدَّ منها في الاختبار، في الاختبار من الله “سبحانه وتعالى”، هو القائل “جلَّ شأنه”: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ}[محمد: من الآية31]؛ حتى يتبين من يستمرون في صبرهم، فيواصلون أداء مسؤولياتهم، والقيام بواجباتهم، والثبات في موقف الحق.
ثم عندما نأتي إلى العواقب الوخيمة لعدم الصبر في الاتجاه الصحيح، عواقب خطيرة جدًّا:
-
في الدنيا: لا يتمكن أعداء الله من السيطرة على الناس، ويستحكم الظلم، ويتمكن الطغاة، ويعم الفساد، ويعم الشر، ويسود الباطل، إلَّا إذا فقدت الأمة صبرها في النهوض بمسؤولياتها التي ستحول دون ذلك.
لا يعاني الناس ويخفقون ويفشلون في حياتهم، في مختلف أمورهم المهمة، وفي مقدمتها: في أن يكونوا أمةً تتحرك وفق هدى الله “سبحانه وتعالى”، إلَّا إذا فقدوا الصبر، لم يصبروا.
فالعواقب التي تنتج عن عدم الصبر هي وخيمةٌ جدًّا في الدنيا، الأمة تعاني وتدفع كلفةً أكبر، ما قد يتحاشاه الناس من الصبر، من كلفة معينة، من ثمن معين، من تضحية معينة، يحصل ما هو أصعب منها، أكبر منها بكثير، بدون مقارنة، مع ذلٍ، وهوانٍ، واضطهادٍ، وضيمٍ، وقهرٍ، وعناءٍ شديد، وعناءٍ شديدٍ جدًّا، في حالة عدم الصبر.
-
وصولاً إلى دخول جهنم والعياذ بالله، ومكابدة الآلام الرهيبة، والعذاب الأليم الشديد، حيث لا يجدي الصبر، {فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ}[الطور: من الآية16]، يقال لأهل النار، هم حتى هم يقولون عن أنفسهم: {سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ}[إبراهيم: من الآية21].