الكاتب الفلسطيني نضال خلف يكتب : اليمن والعروبة: حرب الأصالة
ليست الحرب العسكرية -على مساوئها- أخطر ما يتهدّد الأمة العربية بفعل المشروع الاستعماري الغربي. ففعل الإبادة الذي يشكّل عماد المخطط الاستعماري يتدرّج بأشكاله وفق حاجة الغرب لتحقيق أكبر قدر ممكن من إخضاع الشعب العربي وتحييده عن موارده وأرضه. فالشكل الأوضح لحرب الإبادة هو ما يتعرّض له الشعب الفلسطيني منذ أوائل القرن العشرين على يد العصابات الصهيونية التي تتصدّر معركة تأمين النهب الغربي في المنطقة والعالم. بالمقابل، تبرز أشكالٌ أخرى لحرب الإبادة أهمّها العنف الثقافي-النفسي الذي يمارسه الغرب عبر إعادة تعريف الهويّة العربية بما يحقّق أهداف الهيمنة والإخضاع.
لعقودٍ طويلة، استخدم الغرب المنتوج الفكري والمادي الذي انتجته الحركة الاستشراقية لإعادة تعريف الهويّة العربية بما يتلاءم مع مخططات الهيمنة والنهب. ففي بدايات القرن العشرين، تمّ تصوير الإنسان العربي بصورة “الهمجي” الغبي الذي يعيش في الخيام ويلاحق النساء فقط. وقد جاء هذا التصوير بقصد تحقير “العدوّ” العربي الذي يشكّل الحاجز الماديّ أمام عصابات وجيوش الغرب (وعلى رأسهم الصهاينة) في حربهم لتحقيق هيمنتهم على المنطقة والعالم. ومن هنا، كان لا بدّ أن يظهّر العربي بأقبح صورة ممكنة لنزه الصفة الإنسانية عنه وجعله هدفاً مقبولاً، لا بل ضرورياً، لضمان استدامة “الحضارة” والقيم الغربية. ومع مرور الوقت، وبروز حركات المقاومة العربية، تغيّرت صورة العربي في العين الغربية إلى صورة “الإرهابي” المجنون المتعطّش للدماء. وفي هذا التصوير استمرارٌ لسياسة انتزاع الإنسانية من العرب، بالإضافة إلى تجهيل وقائع لجوء الإنسان العربي إلى العنف لاستعادة حقّه المسلوب عبر تنميط العنف كصفة متأصّلة في الشخصية العربية. ومؤخّراً، ونتيجة التغيّرات الطارئة على اقتصاد الهيمنة العالمي، تضاءلت صورة العربي في عين الغرب حتى استقرّت على هيئة “الغنيّ” المفرط في البذخ على الملذّات.
وبنظرةٍ سريع على الإعلام الغربي المهيمن على الصورة العالمية، تبرز الصورة الأخيرة بقوّة خلال السنوات الأخيرة في تعريف الإنسان العربي، وهي صورة مستنبطة من نواطير نهب النفط العربي في ممالك وإمارات الخليج العربي. وهؤلاء قد أتمّوا فروض خضوعهم للاستعمار الغربي من خلال ترسيخهم للصور النمطية الغربية والعمل بها لنيل رضا أسيادهم. فتراهم يبذّرون أموال الغاز والنفط العربي لاستضافة كأس العالم واستقطاب نجوم كرة القدم وفنانين أجانب، دون أيّ عوائدٍ حقيقية على شعوب المنطقة المُفقرة والمُحاصَرة والتي تتعرّض لأبشع أشكال الإبادة بالسلاح الأمريكي والأيدي الصهيونية. ليس من المبالغة القول بأنّ نواطير النهب على عروش النفط العربي قد نجحوا في ترسيخ صورة العربي “التافه” المتخلّي عن قيمه وأرضه وكلّ صفاته مقابل إرضاء القواعد العسكرية الأمريكية والكيان الصهيوني. وهذا الرضوخ هو شكلٌ من أشكال الإبادة. إذ يؤدّي تعميم هذا النموذج من خلال القدرات المادية الهائلة لهؤلاء النواطير في الإعلام وشراء الذمم إلى تقديم طريق وحيد لبقاء الإنسان العربي بعيداً عن القتل والفقر، وهو طريق الرضوخ للربّ الأمريكي. تلقائيّاً، يجد العربيّ نفسه مضطراً للتخلّي عن منظومة قيمه وجوهر هويّته لقاء “لقمة العيش” ومجرد البقاء على قيد الحياة.
لكنّ اليمن وشعبه أبى لهذه الأمّة مثل هذا المصير، وهو ما يدفعنا إلى فهمٍ أكثر عمقاً للمعركة التي يخوضها اليمن. فالحرب التي تُخاض اليوم في المنطقة هي حرب على نطاق الوجود، واليمن في وسط الوغى يقدّم يبارز جيوش الإبادة في ميدان العسكر والثقافة في آنٍ معاً. فعلى الصعيد الثقافي-النفسي، يقدّم اليمن نموذجاً مضاداً للرخويات العربية الراكعة لأميركا. فهنا قرارٌ رسميُّ عربي يعكس إرادةً شعبيّةً صلبة في كسر الخطوط الحمراء ومنع الاستفراد بشعبٍ مظلوم. وفي ذلك يقدّم اليمن درساً للعالم أجمع في معاني الديمقراطية والحريّة وتحقيق إرادة الشعوب في التحرّر من الهيمنة والاستعمار. لكنّ اليمن بموقفه وصموده الأسطوري يستعيد الهوية العربية الأصيلة التي تدحض بنصاعتها ونقائها زيف هوية الرخويات العربية الذليلة والخاضعة. ففي اليمن اللسان العربيّ الفصيح الناطق بالضاد المضادة للاستعباد والذلّ، يقابله أشباه شعراءٍ يلعقون أحذية الأمراء ويلمّعون واجهات القواعد العسكرية الأمريكية في الدوحة والرياض وأبو ظبي بألسنة ملوّثة بالذلّ والنفاق. وفي اليمن الشجاعة العربية التي تتحدّى أضخم إمبراطوريات التاريخ، يقابلها ذلّ من لا يجرؤ على فتح معبرٍ لنصرة شعبٍ عربيّ عزيز محاصر مخافة غضب الربّ الأمريكي. وفي اليمن وفاءٌ للأشدّاء الذين قبضوا على جمر نصرة اليمن في زمن التخلّي، يقابله نفاقٌ لا ينضب لمقامرين فاشلين وتجّار دم وقحين يصرّون على الغوص في الفتن المذهبية على قنوات النفط العربي.
في اليمن، يحمل العربيّ تاريخه ولغته وهويّته على كتفه بجوار بندقيّة، فيرفع رأسه عالياً رغم الصعاب، ويواجه أكبر طغاة الأرض بلا تردد. لأنّ العربي الأصيل هو من يخشى غضب الله لا غضب أعداء الله، ولأنّ العربيّ الأصيل هو ينصر المستضعف لا من يرقص فوق جثّته، ولأنّ العربي الأصيل هو من أدرك بأنّ “نفطه” الحقيقي هي كرامته وشجاعته وكرمه، فيقول “الله أكبر” وقلبه يدرك صدق اللسان.
هكذا يخوض اليمن حرب دفع الإبادة عن هويّتنا العربيّة، فليلتحق الجميع حتّى نعود خير أمّة أخرجت للناس.