الفضيحة السعودية: من يستدرج من وهل تنجح مثل هذه التكتيكات النفسية؟
ليس الناطق باسم تحالف العدوان على اليمن تركي المالكي “الضحية” الأولى لعملية تضليل اعلامي كتلك الموصوفة التي نفذها السبت الماضي (8/1/2022) وقدم فيها ما تباهى بأنه دليل حسي مصوّر عن وجود مخازن أسلحة لصواريخ باليستية إيرانية يجري تجميعها وتخزينها من قبل “الميليشيات الانقلابية” (كما يسميهم دائما) في مكان ما (أوحى بأنه يعرفه بدقة) داخل ميناء الحديدة. قبله كان كولن باول وزير خارجية الولايات المتحدة في عهد جورج بوش الابن “ضحية” مماثلة عندما “ضحكت عليه” أجهزة الاستخبارات الأميركية وجهزت له ملفًا “محكمًا بالأدلة الحسية الأكيدة” عن وجود أسلحة دمار شامل لدى العراق قدمه أمام الأمم المتحدة في فبراير 2002 لتبرير غزو بلاده للعراق في ربيع العام 2003.
بعد سنوات وصف باول ما جرى “بأنه وصمة عار في مسيرته السياسية”، وأبلغ قناة “آي بي سي” الأميركية أن ما جرى من تقديم ذلك العرض المصور الذي زودته به الاستخبارات “كان مؤلماً له وقد دمره”. ويبدو أن سحنة باول السمراء التي رافقته في كل مسيرة حياته المهنية كمؤشر على احتفاء بتجاوز “عوارض العنصرية” الأميركية قد سهلت على تلك الأجهزة التضحية به، رغم ما شغله من مناصب هامة كمستشار للأمن القومي في أواخر عهد رونالد ريغن ثم أصغر وأول رئيس لهيئة الأركان المشتركة (أكبر هيئة عسكرية أميركية) من أصول افريقية وقائد في حرب الخليج الأولى عام 1991 ثم وزيرا للخارجية.
إذًا تركي المالكي ليس أهم من كولن باول، فهو مجرد ضابط برتبة ناطق اعلامي وبالتالي يسهل التضحية به من قبل مشغليه، لأن ما يجتهد في تقديمه والدفاع عنه في مؤتمراته الصحفية واطلالاته الاعلامية منذ خلافته أحمد العسيري (المتهم بالمسؤولية عن قتل جمال خاشقجي) ليس من بنات أفكاره ولا من تجميعه أو جهده الشخصي، بل هو حصيلة عمل فريق متخصص في قيادة التحالف يقوم بتجهيز وكتابة ما يجب أن يقرأه ويقوله المالكي. وطبعًا لن تُعطى للأخير فرصة الاعتذار أو التعبير عن ندمه وأسفه وتقديم استقالته كما تقتضي القواعد والأعراف والقيم العسكرية التي يتلقاها ضباط الجيوش في الكليات الحربية.
وبعد التسليم بأن ما جرى هو فضيحة كبيرة بامتياز ودليل افلاس واشارة هزيمة إضافية وسقوط أخلاقي وكل ما يمكن اسقاطه على ما جرى، فإن السؤال الفعلي هو لماذا يلجأ التحالف مع كل امكانياته الى مثل عملية السرقة والتزوير هذه؟ وقبل ذلك، هل فعلًا هناك من الفريق المسؤول في قيادة التحالف عن تجميع “الأدلة” مَن بادر الى تلقف الفكرة وطبخها واستحضار ذلك المشهد للصواريخ من فيلم أميركي توثيقي عن غزو العراق (سيفير كلير) أم أن هناك من مرتزقة العدوان من يبيعون المعلومات مقابل مبالغ مالية طائلة قد اقنعوا مشغليهم بأن لديهم الآن دليلًا لا يضاهى فوقعوا في الفخ؟ أم هو كمين؟
الذي يعرف الجواب هو الفريق نفسه الذي قام بتركيب المشهد. لكن أيًا تكن الإجابة فإن فرضية الكمين “الصديق أو المعادي” لا تعني أن لا يقوم هؤلاء بفحص تلك المواد قبل اعتمادها وهم لديهم من الإمكانيات والخبرات والتقنيات ما يسهل التأكد من صحة ما يقدم لهم، لا سيما وأنهم في وضع مزرٍ جدًا لا يحتاجون فيه الى مزيد من النكسات والضربات النوعية. وعليه فإن الفرضية الأرجح هي أن القائمين على الفبركة قد اعتمدوا هذه الرواية وجاؤوا بمشهد الصواريخ المخزنة انطلاقًا من مقولة كانت معتمدة في زمن الصراع العربي – الإسرائيلي وهي أن “العرب لا يقرأون”، وبالتالي اعتقد هؤلاء أنه يمكن تمرير هذا “الدليل” من دون أن يتمكن أحد من اكتشاف حقيقته كمشهد من فيلم وثائقي أميركي، قبل أن تظهر المفاجأة في وقت قصير جدًا وتسقط تلك العملية الإعلامية. ومن المفيد التذكير أن اداء وسائل اعلام التحالف منذ بدء العدوان عام 2015 يقوم على احتقار جمهورهم والاستخفاف بعقولهم وتكرار نفس الأكاذيب عليهم دون أن يلحظوا ولو لمرة واحدة إمكانية أن يحتج على هذا الاستخفاف.
والسؤال الثاني أنه إذا كان تحالف العدوان لم يكترث يومًا لتبرير أي غارة على أي هدف مدني يمني على مدى سنوات سبع، وكان يكتفي بالزعم أنها لهدف عسكري “معاد” من دون الحاجة الى تقديم دليل، فلماذا الآن يحتاج الى دليل لتبرير قصف ميناء الحديدة مثلاً أو استمرار الحصار عليه؟ هل ارتفع منسوب “الإنسانية” لدى هؤلاء فأصبحوا يخافون على المدنيين اليمنيين ويتوخون الحرص على القانون الانساني الدولي؟
صحيح أن تقارير خبراء مجلس حقوق الانسان قد أثرت على سمعة المملكة السعودية والامارات وشركائهما الدوليين والاقليميين والمحليين في المسؤولية عن الجرائم التي ارتكبوها ضد اليمنيين، وبالتالي لا بد من احتواء هذا الأمر عبر اظهار الحذر والحرص ولو اعلاميًا على المدنيين، خصوصًا مع توافر معلومات مؤكدة عن تشارك أميركي بريطاني إسرائيلي في إدارة الموجة الحالية من تصعيد العدوان، والتي تستحضر على سبيل المثال أساليب إسرائيلية (ثبت فشلها) في تحديد أهداف على أنها “مخازن سلاح” وطلب اخلائها قبل قصفها، ثم وضع الطرف المستهدف في حالة دفاعية، والقيام بنشاط اعلامي للتأكيد أن ملعب الثورة مثلًا في صنعاء لا يحوي مخازن سلاح، وأن منشآت معينة في مطار صنعاء أيضًا لا تستخدم لأغراض عسكرية. ومثل هذه العمليات مشفوعة بتكثيف للغارات الجوية بشكل يشبه الأشهر الأولى للعدوان، تؤكد ان هناك برنامج عمليات عسكريا ونفسيا اعلاميا يتم تنفيذه لتحقيق عدة أهداف، أبرزها إظهار إعادة سيطرته الميدانية والعودة الى استراتيجية الهجوم بعد سنوات من الانكفاء الى استراتيجية الدفاع، مع ذلك الضخ الإعلامي الذي يستهدف إحداث ارتباك لدى الجانب اليمني، ولو اقتضى الأمر التفريط بما تبقى من سمعة مهنية (وليس سمعة تركي المالكي فقط لأنه مسير وليس مخيرا).
وقد لوحظ في سياق تلك الهجمة الإعلامية المرتدة أن تحالف العدوان يركز على فكرة اختراق قيادات في “انصار الله” فيعرض تارة دليلًا تافهًا على وجود خبراء من حزب الله، وطورًا دليلًا يوازيه تفاهة على وجود خبراء من الحرس الثوري، ثم دليلًا على اكتشاف ومعرفة أماكن وجود مخازن السلاح والصواريخ الباليستية والطائرات المسيرة، كل ذلك الكذب الممنهج هو على الأرجح بهدف إحداث ارتباك داخل القيادات المعنية في صنعاء مما يدفعها – باعتقاد تحالف العدوان – الى القيام بإجراءات لوجستية لنقل بعض الأسلحة من مكان الى آخر، وبالتالي يسهل رصدها عبر الأقمار الصناعية وتحديد أماكنها بالفعل – وليس بالوهم كما هو حال ما يزعمونه الان- وما يستتبع ذلك من حركة اتصالات هاتفية أو لاسلكية يمكن رصدها، وبالتالي يصلون الى قيادات مهمة ومراكز تخزين حقيقية للأسلحة والطائرات، فينقضون عليها كما يتصورون. وإلا كيف تنطوي على شخص لديه الحد الأدنى من المعرفة العسكرية بأنه في ميناء الحديدة الساحلي المكشوف أمام طائرات العدوان وبحريته يوجد مراكز لتجميع وتركيب الصواريخ الباليستية قبل نقلها الى مناطق داخلية، وهي بالحجم الذي ظهرت فيه في المشهد المسروق لا يمكن تحريكها (لا ليلا ولا نهارا) الى صنعاء أو صعدة أو محافظات أخرى، فضلًا عن أن عملية النقل لأجزاء من الصواريخ هي أكثر سهولة وأمانًا الى المناطق الجبلية من أن تنقل وهي مجمعة ومركبة وجاهزة للإطلاق فيما لو صحت المزاعم “المالكية”؟
إذا كانت هذه المعطيات لا تنطلي على من لديه حد أدنى من المعرفة العسكرية فهل ستنطلي هذه التكتيكات النفسية الاستدراجية على من أظهر كفاءة وخبرة ممتازة في إدارة القتال على مدى أعوام المواجهة والانتصار؟ ربما هذا آخر ما لدى هذا التحالف من محاولات وذلك لتحقيق شيء قبل الإقرار رسميًا بالفشل والهزيمة، وبانتظار تلك الهزيمة يوفر تحالف العدوان للمشاهدين مادة هامة للتندر والضحك في زمن الحرب.
عبد الحسين شبيب