وصلنا إلى قوله “عَلَيهِ السَّلَامُ”،((وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا خَيْرَ فِي عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ، وَلَا يُنْتَفَعُ بِعِلْمٍ لَا يَحِقُّ تَعَلُّمُهُ))، مع الحث على الاهتمام بالعلم والاستفادة من العلم، يبرز هنا عنوان العلم النافع، ومسألة الانتفاع بالعلم مسألة مهمة وأساسية، قد تكون الإشكالية أن بعض ما يتعلمه الإنسان تحت عنوان أنه من العلم، قد لا يكون فعلًا من العلم النافع، فقد يتعلم الأشياء التي تضر، أو الأشياء التي تُفسد، أو الأشياء التي لها آثار سلبية، والإنسان أحيانًا أيضًا قد يتعلم ما ينفع لكنه لا ينتفع به، يمكن أن تتعلم حتى القرآن الكريم من دون أن تنتفع بالقرآن الكريم، هذا يعود إلى ماذا؟ إلى إشكالية لدى الإنسان، وليست إلى إشكالية في العلم النافع نفسه في القرآن الكريم، أو في أيٍّ من العلوم النافعة، لكن عندما يكون لدى الإنسان إشكالية مثل انعدام زكاء النفس، أو أي إشكالية من الإشكاليات التي تبعد الإنسان عن الانتفاع بالعلم النافع، فلذلك لأهمية هذه المسألة يؤكد على أهمية الانتفاع بالعلم النافع، والحذر مما يقدَّم تحت عنوان أنه علم ولكنه لا ينفع، إما أنه مضيعة لوقت الإنسان، ولجهده، ولاهتماماته، وإما أن فيه ما يضر، أو يفسد، أو لا إيجابية له في واقع الحياة، بل نتائجه سلبية وسيئة.
لأهمية موضوع العلم، وما يتعلق به من عناوين مهمة وتفاصيل مهمة، نتحدث في هذا الدرس عن هذا الموضوع، ونركز على بعض من النقاط الأساسية.
الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، هو العليم الحكيم، والمحيط بكل شيءٍ علمًا، {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ}[البقرة: من الآية 255]، {هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ}[الحشر: من الآية 22]، {لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ}[آل عمران: من الآية 5]، هو الذي يعلم السر في السماوات والأرض هو “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” الذي هو بكل شيءٍ عليم، هو “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” العالم بما كان ويكون، وما لم يكن لو كان، كيف كان يكون، لا يخفى عليه شيء أبدًا، هو “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” الذي حدثنا وعلمنا في القرآن الكريم عن سعة علمه بما يفوق أي تصور، أو تخيُّل لذلك، حديثه في القرآن الكريم عن علمه واسعٌ ومهمٌ ومفيد.
ومما يجب أن نعرفه في معرفتنا لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، أن نعرف عن علمه “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، علمه الواسع، علمه المحيط بكل شيء، علمه الشامل لكل شيء، ومن أعظم نعم الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” على الإنسان: نعمة العلم والمعرفة، هي من أعظم النعم التي أنعم الله بها على البشر، نعمة العلم والمعرفة، بدءًا بما وهب الله الإنسان في خلقه وتكوينه من وسائل ضرورية لاكتساب العلم، وللحصول على العلم، ولاستيعاب العلم، وللحصول على هذه النعمة، فالله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” وهب الإنسان وسائل تساعده على ذلك، وإلا كان بالإمكان ألا يتمكن من اكتساب العلم، ولا من تلقي العلم، ولا من استيعاب العلم والمعرفة، ولو أنه لم يحظَ بهذه النعمة، لكان واقعه مختلفًا تمامًا عما هو عليه، ولكان دوره في الحياة محدودًا للغاية، وكذلك مستواه في التكريم لكان مختلفًا عما هو عليه.
الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، قال في القرآن الكريم: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا}[النحل: من الآية 78]، حينما يولد الإنسان ويخرج من بطن أمه يكون جاهلًا بكل شيء، لا يعلم بأي شيء، حتى في محيطه القريب، لا يعرف أي شيء على الاطلاق، جاهلًا بكل شيء، {وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ}[النحل: من الآية 78]، زودكم بوسائل من خلالها تكتسبون المعرفة والعلم وتنمو معرفتكم، تنمو معارفكم، وتكتسبون العلم شيئًا فشيئًا مع نموكم، وفي مسيرة حياتكم، وهذا شيء معروف، بدون هذه الوسائل الثلاث: السمع، والأبصار، والأفئدة، الفؤاد يتلقى من الداخل ما أدركه الإنسان عن طريق حاسة البصر، أو عن طريق حاسة السمع.
حواس ووسائل عجيبة، وسائل عجيبة في الدروس، وفيما اكتشفه الناس، فيما اكتشفه الإنسان، فيما عُرِف من خلال العلوم الحديثة عن هذه الحواس ما يبهر الإنسان، وسائل مهمة وضرورية وعجيبة في خلقها وتكوينها، ومدى استفادة الإنسان منها، هذه الوسائل الضرورية لأن تستفيد المعرفة والعلم، تجاه كل شيء، كل شيء يتعلق بك من المحسوسات والمدركات، بدءًا من مراحل حياتك الأولى، التي تبدأ فيها بالتعرف على الأشياء البسيطة لكنها ضرورية جدًا، تتعلق بك في حياتك.
والإنسان في طفولته المبكرة عندما ينمو، يتعلم الأشياء من حوله، تدريجيًا، يتساءل عن كل شيء، لا يعرف شيئًا، لدرجة أن قد يضيق منه ومن كثرة تساؤلاته: أقاربه، والدته، والده، إخوته؛ لكثرة ما يتساءل عن أبسط الأشياء، لكنه لا يعرف بها، ولذلك يتساءل عنها، يسأل عن كل شيء، لأنه كان جاهلًا بكل شيء، فيكتسب المعرفة شيئًا فشيئًا مع نموه، وفي مسيرة حياته، من خلال هذه الوسائل السمع، والأبصار، والأفئدة، وهي وسائل عجيبة، ونعمة كبيرة، ولهذا قال الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}، لو لم يُعطَ الإنسان هذه الوسائل، أو أُخِذت منه، لتغير واقعه تمامًا، ولهذا يقول الله في القرآن الكريم: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُم مَّنْ إِلَـهٌ غَيْرُ اللّهِ يَأْتِيكُم بِهِ}[الأنعام: من الآية 46]، لو أخذ الله منك حاسة السمع وحاسة البصر، وختم على قلبك، فلم يعد فيك حتى في داخلك، ما يستقبل ويُفرِز، ويقدم حالة ما وصل إليه، لتتصوره في ذهنك، لأصبح واقعك مختلفًا تمامًا، لجهلت كل شيء.
وحالة الإنسان التي يصل فيها إلى ألا يتمكن من استيعاب العلم والمعرفة، فيها أيضًا آيةً وعبرة، عندما يتقدم به العمر فيصل إلى أرذل العمر، مثلما قال الله في القرآن الكريم: {وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا}[الحج: من الآية 5]، عندما يصل الإنسان إلى أرذل العمر، حتى لو بقي له حاسة السمع والبصر، لكنه يفقد الاستيعاب، السيطرة على ما يصله من معرفة، يدرك الشيء بحاسة بصره ثم ينساه على الفور، يدرك الشيء بحاسة السمع، إذا كان بقي له حاسة السمع، إذا كانت بقيت له حاسة السمع يستقبل الشيء بها، ثم يجهله تمامًا، لا يمسك ولا يسيطر على ما وصلة من معرفة.
فنعمة الوسائل التي زودك الله بها في خلقك، وفي تكوينك هي: نعمة كبيرة وهي وسائل أساسية، الدماغ نفسه هو مرتبط بالفؤاد، هو كشاشة الكمبيوتر، الكمبيوتر هناك جهاز وله شاشة، الدماغ نفسه وسيلة عجيبة جدًا، ومن خلال ما عرفه البشر عنه في اختزانه للمعلومات، ما يحصل فيه من عمليات، هي مرتبطة بالفؤاد والقلب، متصلة به بالطريقة التي جعلها الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” في خلق الإنسان وتكوينه، لكن في ذلك الشيء العجيب جدًا.
وزود الله الإنسان بنعمة البيان والنطق والقراءة، نعمة البيان والنطق واللغات: هي نعمة أساسية في مسألة التعليم، ومسألة العلم، وإلا كان الإنسان من دونها كيف سيفعل، لو لم يمتلك التعبير عما يعلمه، والتعبير لإيصال المعلومة، ولذلك يقول الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” في القرآن الكريم: {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآَنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ}[الرحمن: 1-4]، والقراءة- من خلال ما يقرأه الإنسان أو ما يتلقاه من قراءة أيضًا، ما يُلقَّن به: هي وسيلة أساسية ومعروفة للتعليم، الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” أيضًا زود البشرية تلك وسائل في نفس الإنسان، ثم في خارج زوّد البشرية ومن وقت مبكر، بوسائل أساسية للتعليم: هي القلم والكتابة، زودك في نفسك بتلك الوسائل، ولكن من خارج في الواقع زوّدك بوسيلة القلم والكتابة، وهي وسائل أساسية للتعليم، وهي وسائل مبكرة، البعض يتصورون أنها وسائل متأخرة، لم يستفِد البشر منها إلا في وقت متأخر، هذا غير صحيح، الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” قال في القرآن الكريم ليبين أهمية هذه النعمة، نعمة القلم والكتابة: {ن وَالْقَلَـمِ وَمَا يَسْطُرُونَ}[القلم: 1]، أقسم الله بهذه النعم؛ لأنها نعم عظيمة جدًا، أهميتها في الحياة، ودورها في الحياة واسع جدًا، وله أهمية كبيرة جدًا، قال أيضًا في القرآن الكريم: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَـمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَـمْ يَعْلَـمْ}[العلق: 1-5]، فهي وسائل أفادت الإنسان، ويعتمد عليه الإنسان أساسًا في ذلك، فيما يتعلق بالعلم ومختلف العلوم.
العلم أيضًا كان من أهم المؤهلات، من أهم المؤهلات التي أهل الله بها الإنسان ليكون بمستوى مسؤولية الاستخلاف في الأرض؛ لأن مسؤولية الاستخلاف في الأرض مسؤولية كبيرة، وارتبط بها مهام كبيرة وتفاصيل كثيرة في واقع الإنسان، فخلق الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” الإنسان في خلقه، وتكوينه، واحتياجاته، ومتطلبات حياته، بما يتناسب مع هذا الدور، وهيأ له الأرض كذلك وسخر له ما في السماوات وما في الأرض، ولكنه كان لا بد له من العلم، وإلا فلن يكون مؤهلا لهذا الدور في الاستخلاف في الأرض، ولذلك يقول الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” وقد بين في سورة البقرة ما حصل من استشكال عند الملائكة، وتساؤل، واستغراب، كيف يُستخلَف البشر على الأرض، وهم يفسدون فيها ويسفكون الدماء؟ فحصل الاختبار الذي بيَّن جدارة آدم “عَلَيهِ السَّلَامُ”، وجدارة البشر، وتَناسُبهم مع هذه المسؤولية، وكان من أهم ذلك هو العلم، يقول الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا}[البقرة: من الآية 31]، لاحظوا بدأه بالتعليم، لأنه يحتاج أولًا إلى التعليم والعلم، {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ}[البقرة: 31-33]، حينها أذعنت الملائكة، واتضحت لها الحقيقة واقتنعت تمامًا، اقتنعت بأن الإنسان مناسب لهذه المسؤولية ولهذا الدور.
آدم “عَلَيهِ السَّلَامُ” منذ استخلافه في الأرض كان يتلقى الدروس من الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” بما علَّمه الله، بما أوحى إليه، بما هداه له، بما ألهمه إياه، وهكذا كان يعتمد بشكلٍ أساسي في دوره على المعارف الإلهية، في التاريخ البشري من بعد مسيرة آدم “عَلَيهِ السَّلَامُ”، في الواقع البشري المتعاقب على مدى الدهر والتاريخ، الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” زود الإنسان بأعظم وأسمى المعلمين، والكتب، المعلمين من رسله وأنبيائه؛ ليكونوا هم الطليعة والهداة، الذين يعلمون البشرية، وليكونوا القدوة في التعليم النافع، وفي تقديم الأسس الصحيحة التي يكون العلم من خلالها أساسًا لمسيرة الحياة، ونورًا يخرج البشرية من الظلمات إلى النور، ومرتبطًا بغاياتٍ، وأهدافٍ عظيمة وبنَّاءة، وليكون فلاحًا للإنسان في الدنيا والآخرة، كما قال الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” عن خاتم أنبيائه: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ}[البقرة: 151 ]، هذا هو حال الرسل والأنبياء في مهامهم الأساسية: التعليم للناس بالمعارف الإلهية، التي تخرج الناس من الظلمات إلى النور، قال أيضًا مخاطبًا لرسوله “صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ”: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}[إبراهيم: من الآية 1]، الكتاب والرسول: كلاهما لإخراج الناس من الظلمات إلى النور؛ في حياتهم، وطريقة الأنبياء والرسل “عَلَيهِمُ السَّلَامُ” مثمرة في التعليم، طريقتهم في التعليم مثمرة وبنَّاءة، فهم يقدمون المعارف الإلهية، والعلوم النافعة في إطار واقعٍ عملي، بدءًا من الاهتمام بالإنسان نفسه؛ ليكون راشدًا، وحكيمًا، وزاكي النفس، ومستنيرًا بنور الله، بما يؤهله لأداء دوره في الحياة بشكل بنَّاء، ولذلك لم تكن جهودهم التعليمية مقتصرة على أن يُخرِّجوا مثلا جيلًا يستطيع القراءة والكتابة، وانتهى الموضوع، ثم يتجه بغير رشد، بغير زكاء نفس، بغير حكمة، ليتصرف بشكل عشوائي، بل كانت طريقتهم في التعليم لتُخرِّج المجتمع البشري ليكون راشدًا، زاكي النفس، حكيمًا في تصرفاته، في رؤاه، في أفعاله، في أقواله، بما يؤهله لأداء دوره في هذه الحياة بشكل راقٍ، يتناسب مع تكريم الله له، ويحقق له الأهداف والغايات العظيمة، المسيرة العلمية من جانبهم مرتبطة بأهداف وغايات عظيمة.
الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” أنعم على البشر بشكل عام، وفي المقدمة العرب: بخاتم الأنبياء، مدينةِ العلم، رسول الله محمد “صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ”، وبأعظم كتاب وهو القرآن الكريم، الذي يتسع للمعارف الإلهية الواسعة جدًا، ولهذا قال الله للرسول “صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ”: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا}[النساء: من الآية 113]، فالله علَّمه العلوم والمعارف العظيمة، والواسعة، والعجيبة، والمفيدة للبشرية، التي تصلح واقعهم، تخرجهم من الظلمات إلى النور في كل مجالات حياتهم، وفي نفس الوقت زوَّده بالقرآن، زوَّده بالقرآن بما فيه من المعارف العجيبة، الواسعة جدًا، كما قال الله عن القرآن الكريم في سعة ما فيه من المعارف، العجيبة، والعظيمة، والهادية: {قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا}[الكهف: 109].
الرسول “صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ”، كان من مهامه الأساسية بما منحه الله من العلم في القرآن الكريم، وما علَّمه إياه، أن يُعلِّم المجتمع البشري، أن يُعلِّم الناس، أن يوصل هذا العلم إلى الناس، ولهذا يقول الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”- طبعًا وفي المقدمة العرب- يقول الله “جَلَّ شَأنُهُ”: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ}[الجمعة: 2]، الكتاب: القرآن، بما فيه من المعارف الواسعة والعجيبة، {وَالْحِكْمَةَ}، ليمتلكوا الحكمة في رؤاهم، في تصرفاتهم، في مواقفهم، في أعمالهم، إلى غير ذلك، في أقوالهم، {وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ}، فكان تعليمًا يخرجهم من الضياع، والضلال، والباطل، والخُرافة، تعليمًا يهديهم، ينقذهم، يصلحهم، يزكيهم، ينتقل بهم من واقع حياتهم السيئ والجاهلي إلى واقعٍ مختلفٍ تمامًا، له ثمرة في واقع الحياة، تعليم له ثمرة في أنفسهم وفي واقع حياتهم.
وأتى الترغيب في العلم، والرفع من شأنه في القرآن الكريم، وعلى لسان رسول الله “صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ”، والحث على الاهتمام به، في آياتٍ كثيرة، وأيضًا في نصوص كثيرة عن النبي “صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ”، مما بيَّن الله به- في القرآن الكريم- المقام لمن يستفيدون العلم النافع، بقوله “جَلَّ شَأنُهُ”: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ}[المجادلة: من الآية 11]، رفعة ممن؟ من الله، رفعة من الله، تختلف عن أي وسام، عن أي درجة من الناس، البعض من الناس قد يفتخر، قد يتباهى بأنه حصل على وسام من سلطة معينة، أو من شخص معين، أو من جهة معينة، أما هذا فمن الله، {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ}.
في الحديث النبوي عن رسول الله “صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ”:((مَن سَلَكَ طَرِيقًا يَطلُبُ فِيهِ عِلمًا، سَلَكَ اللهُ بِهِ طَرِيقًا إلى الجَنَّةِ))، عندما تكون الغاية والهدف: هي ذلك الهدف الذي رسمه الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وتلك الغاية التي حددها الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وانطلقتَ في واقعك التعليمي بناءً على ذلك، وانطلقتَ من تلك الأُسس والمعارف الإلهية، فأنت تتجه إلى الجنة، يكون العلم نورًا لك، يصل بك إلى الجنة.
في القرآن الكريم أويضرتت الهداية الواسعة، التي شملت العلوم، والمعارف، والتعليمات الإلهية المتعلقة بشؤون الإنسان الشخصية، شؤونه الاجتماعية، شؤونه المختلفة في واقع الحياة، وكان من أكثر ما ورد في القرآن الكريم: الحديث عن نعم الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” التي أنعم بها علينا كبشر، وعن التسخير الإلهي، الذي سخَّر الله به ما في السماوات وما في الأرض- من تلك النعم- لصالح الإنسان، وهيأ للإنسان الانتفاع بها، بناءً على ذلك التسخير، والاستفادة منها على نحوٍ واسع، وبأشكال مختلفة ومتنوعة، بحيث يمكن للإنسان أن ينتج منها منافع كثيرة، مما يحتاج إليها في حياته.
مع الحديث الواسع الذي شمل مفردات كثيرة من تلك النعم، ولفت النظر إليها، وأكد على أنها مسخَّرة للإنسان؛ لينتفع بها بكيفيات مختلفة، لكن العرب لم يهتموا بذلك، وتاه العرب فيما بعد، العرب لم يستفيدوا من الرسول الله “صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ”، ولا من القرآن الكريم بالمقدار الذي ينبغي، استفادتهم كانت قليلةً من رسول الله “صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ”، إقبالهم وتركيزهم واهتمامهم بالعلم، لم يكن بالشكل المطلوب، فلا استفادوا من الرسول الذي هو مدينة العلم، ولا استفادوا من القرآن الكريم الذي هو ينبوع العلم والمعارف الواسعة، كما ينبغي، ولا انطلقوا- فيما بعد- بناءً على ما أسَّسه الرسول “صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ”، وقد لاحظوا النقلة الكبيرة التي انتقل بهم من خلال ما قدمه من الهداية، والعلوم النافعة، والمعارف الصحيحة، والتعليمات العظيمة القيِّمة، في إطار عملي، ومسيرة عملية.
في واقع العرب- فيما بعد- لم ينطلقوا على ما أسَّسه الرسول، وبناءً على ما ورد في القرآن، فيبنوا واقعهم على ذلك الأساس، ومسيرتهم العلمية على ذلك الأساس، وفي إطار عملي. لو استقامت مسيرتهم على ما أسَّسه لهم رسول الله “صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ”، في العلم والمعرفة والحكمة، وما قدم لهم القرآن الكريم، لكانوا في هذا العصر هم رواد البشرية بكلها في مختلف العلوم، ولما كانوا يعيشون هذا التخلف الذي يعيشونه، والتأخر الكبير في الجانب العلمي، ثم في الجانب الحضاري.
هم أيضًا لم يستفيدوا حتى من أمير المؤمنين علي “عَلَيهِ السَّلَامُ”، في أيام حكمه كان يقول لهم: (سَلُونِي قَبلَ أنْ تَفقَدُونِي)، كان يقول لهم: (ها إن هاهنا لَعِلْمًا جَمًّا، لَو وَجَدتُ لَهُ حَمَلَة)، لم يستفيدوا منه وهو باب مدينة عِلم رسول الله “صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ”، وهو الأُذُن الواعية الذي كان يستوعب من رسول الله “صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ”.
تاهوا فيما بعد في الجدل العقيم، وحُرِّفَت المفاهيم، فعُطِّل المشروع الإسلامي الحضاري فيما بعد، وأصبحت العملية التعليمية مفصولةً عن الجانب العملي، وغير بنَّاءة، إلى حدٍّ كبير في واقع الأمة، وهنا نصل إلى عنوان مهم: هو موضوع العلم النافع، والمنهجية التعليمية كيف تكون بنَّاءة، ومثمرة، ومؤثرة، ومفيدة في واقع الأمة، لأنه يمكن أن يكون هناك اهتمام تعليمي ونشاط تعليمي، لكن ثمرته إما محدودة، وإما سلبية في بعض الأحيان، أتى في كلام أمير المؤمنين “عَلَيهِ السَّلَامُ”، في وصيته لابنه الإمام الحسن “عَلَيهِ السَّلَامُ”: ((وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا خَيْرَ فِي عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ)) لا خير فيه، لا يصلح أصلًا، ((وَلَا يُنْتَفَعُ بِعِلْمٍ لَا يَحِقُّ تَعَلُّمُهُ)).
ورد في دعاء النبي “صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ”، فيما كان يدعو به أنه كان يقول:((أعُوذُ بِكَ مِن عِلمٍ لَا يَنفَع))، يستعيذ، لاحظوا لأهمية المسألة: يستعيذ بالله ((مِن عِلمٍ لَا يَنفَع))، كما شرحنا في بداية الحديث في بداية الدرس: البعض من المقروءات غير مفيدة، فيها مضيعة لوقت الإنسان، أو فيها ما يضره، قد تقرأ ضلالًا، قد تقرأ باطلًا، تُلَقَّن به، أو تُعَلَّم به، أو تقرأه وتتأثر به، وقد تقرأ أحيانًا العلم النافع ولكنك لا تنتفع به، وهذا يعطينا رؤية عن مسألة المنهجية التعليمية، والمضمون الذي نتعلمه، مضمون المادة التعليمية التي نقرأها ونتعلمها، فنحرص على العلم النافع، تكون هذه مسألة أساسية، كيف نتعلم المعارف الإلهية الصحيحة، الحقيقية، ولا نغلط فنتعلم المزيف، أو المادة التي تقدِّم لنا الضلال، أو ما ينحرف بنا عن نهج الحق.
وهناك تجربة مهمة جدًا، حتى تزيد المسألة وضوحًا، هناك تجربة أهل الكتاب فيما مضى، كانت تجربة فيها العبرة الكبيرة لأمتنا: في انحرافهم في المسلك التعليمي؛ لأن البعض من الناس ليس عنده رؤية عن مسألة العلم والتعليم، يهمه أن يكون ابنه متمكنًا من القراءة والكتابة، أو أن يتخرج من مدرسة معينة، يحصل على شهادة معينة، أو أن يكون من خلال دراسته جديرًا بوظيفة اشتُرط فيها أن يحصل الإنسان على شهادة بمستوى معين، يعني لم يرتبط في العلم بغاياته المقدسة، غاياته العظيمة، غايات المهمة، التي لها ثمرتها الكبرى في الدنيا وفي الآخرة، وسنأتي أيضًا في ختام الكلام على هذه المنطقة نفسها.
تجربة أهل الكتاب عندما تحول التعليم عندهم إلى عملية هدَّامة، وسلبية، وليس لها إيجابية، ولا أثر صحيح في الواقع، لا في النفوس، ولا في الواقع. أهل الكتاب قال عنهم الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” في القرآن الكريم {وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ}[البقرة: من الآية 102]، لاحظوا الفرق بين أن تتعلم ما ينفع، أو أن تتعلم ما يضر، هناك من المقروءات، هناك من بعض ما يُكتب ويقدَّم تحت عنوان علم، ما هو يضر، وتعلُّمُه ضار، فإذا تعلمته أن تتعلم ما يضرك ويضر الآخرين، قال عنهم الله: {وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ}، في طريقتهم في تقديم المعارف الدينية، كانوا يعلِّمون في أوساطهم على أساس أنهم يعلمون الدين، دين الله، وكتب الله، وتعاليم الله، نشاط تعليمي في كنائسهم، في مدارسهم، بحسب أسمائها عندهم، كانوا يعلِّمون، ولديهم أحبار: علماء كبار، ولديهم بمختلف العناوين والمسميات- بحسب المستويات التعليمية- من يتولون التدريس والتعليم، فما الذي كان يحصل في نشاطهم التعليمي؟ كانوا يعملون على لبس الحق بالباطل، يقدمون الباطل مخلوطًا لتحريف الحق، أو يقدمون الباطل نفسه في لباس الحق، يُلبسون الباطل لباس الحق لينفُق، ليقبله الناس على أنه الحق، وهو الباطل، كان هذا حاضرًا في نشاطهم التعليمي والتثقيفي.
يقول الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” أيضًا يبين لنا ما كانوا يمارسونه من التحريف: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}[البقرة: 75 ]، كانوا يتعمَّدون التحريف لماذا؟ لكلام الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، يتعمدون ذلك تعمُّدًا، بهدف تقديمه محرَّفًا؛ لإضلال الناس، كانوا ينبذون كتاب الله، ويتَّبعون الضلال، ويؤثرون الضلال، قال عنهم في القرآن الكريم: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ}[البقرة: 101-102 ]، أصبح السحر الذي هو كله سيء، ونتائجه مضار، ومفاسد، مادة تعليمية عندهم، يتعلمونه لماذا؟ ليضروا به الآخرين؛ لأنهم ركزوا على أن يتعلموا ما يضر، لم يعد عندهم اتجاه إيجابي في الحياة، فيتعلمون تبعًا له ما ينفع، ويفيد.
{وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ}، بدلًا من هدى الله، من تعليماته، ركزوا على ما تتلوه الشياطين، تورطوا في الافتراء على الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، قال عنهم: {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ}[البقرة: من الآية 79]، كتابة واهتمام، لكن ماذا؟ {ثُمَّ يَقُولُونَ هَـذَا مِنْ عِندِ اللّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ}[البقرة: من الآية 79]، فيمكن أن يكون فيما يُكتب وفيما يكتبه البعض، ما يضر، ما يُضِلّ، ما يُفسد، ما فيه الافتراء على الله، ما توعَّد الله عليه بالويل، بالهلاك، {فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ}، وما أكثر من ينطبق عليهم هذا الوعيد الإلهي، ممن كتبوا وسطَّروا الضلال، وخلَّدوه في أوساط الأمة، جيلًا بعد جيل، ممن قدموا للأمة ما يضرها، ما يحرِّف عليها مفاهيم دينها، ما يبعدها عن الاتجاه الصحيح الذي كان سيبنيها بناءً حضاريًا صحيحًا، على أساسٍ إسلاميٍ صحيح، فأوصلوا الأمة إلى ما وصلت إليه.
إذًا فلا ننظر إلى أن كل ما كُتب هو جيد، كلما كُتب هو نافع، كلما كُتب هو مفيد، وأن يكون همّ الإنسان أن يتلقن أي شيء، بينما كُتِب ما يضر ولا ينفع، {وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ}، بيَّن حال علمائهم، الذين وصل البعض منهم في تنصلهم عن المسؤولية، وتفريطهم بمسؤولياتهم التي حمَّلهم الله إيّاها، لما تعلموا كتبه وأصبحوا علماء دين، قال عنهم: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا}[الجمعة: من الآية 5]، أصبح حال بعض علمائهم أن وصلوا إلى ذلك المستوى، {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا}، الحمار إذا حُمِّل أسفار التوراة، هل سيستفيد منها؟ هل ستزيده وعيًا؟ أو معرفة؟ أو تؤثر على سلوكه واهتماماته بشكلٍ إيجابي؟ أو حتى يَشرُف بها؟ لا يستفيد منها شيئًا، {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}، ولنا أن نتأمل ماذا سيكون دورهم، بعد أن أصبح هذا حالهم كمثل الحمار، ما الذي يمكن أن يفيدوا به أمتهم، أو أهل عصرهم وزمانهم، في أي مرحلة، وفي أي وقت.
قدَّم لهم مِثالًا آخر، يبين سوء دورهم، بالنسبة لبعض علمائهم السيئين، قال الله “جَلَّ شَأنُهُ”: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَـكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث}[الأعراف: 175-176]، وأصبح هذا مثلًا لعلماء السوء، الذين ينسلخون من آيات الله، ويتجهون إلى لعب دورٍ سيئٍ جدًا لخدمة الباطل، لخدمة الطغاة والظالمين والمجرمين والمفسدين، ويلعبون دورًا سيئًا في الصد عن سبيل الله، من أجل مصالح شخصية وأطماع وأهواء، {وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ}[الأعراف: من الآية 176]، فهم غُواة، يعملون على إغواء الناس، وعلى تضليلهم، على إضلالهم، يحاولون ذلك، فالمثل الذي مثَّل الله لهم قال “جَلَّ شَأنُهُ”: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ}[الأعراف: من الآية 176]، مثَل الذي يتجه هذا الاتجاه- كعالم سوء- كمثل الكلب، أسوأ مثل، يعني مثل سيئ للغاية.
بيَّن حالهم في مسيرتهم التاريخية، هذا حالهم وحال من يحذو حذوهم، من يسير بسيرتهم، من يتبع طريقتهم في الانحراف عن آيات الله، عن نهج الله، ولو كان بصفة عالم، نجد اليوم مثلًا في واقعنا العربي والإسلامي من حذا حذوهم، من أصبح يمتلك في رصيده البنكي مئات الملايين من الدولارات والعملات الصعبة، وهو في صف الباطل، يروِّج حتى للتطبيع مع اليهود، ويروج لأمريكا، ويروج لأعداء الأمة الإسلامية، ويلعب الدور التخريبي في إثارة الفتنة بين أوساط الأمة، كثيرٌ من ذلك النوع، يقول عنهم في تفريطهم بمسؤولياتهم في النهي عن المنكر، عن الفساد، عن السوء: {لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ}[المائدة: آية 63]، فرطوا بمسؤولياتهم، العلم يترتب عليه مسؤوليات مهمة جدًا.
ثم كانت علاقة المجتمع بهم- مع ما هم عليه من سوء، ما هم عليه من انحراف، ما هم عليه من تفريط في المسؤولية- اتباع أعمى، كما قال الله عنهم: {اِتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ}[التوبة: من الآية 31]، إلى هذه الدرجة؛ لأنهم يطيعونهم في معصية الله، يقبلون منهم، وهم يحرمون ما أحل الله، ويحلون ما حرم الله، ويدفعون بهم في الباطل، كان من أبرز جرائمهم الكتمان للحق، الكتمان لما أنزل الله، كما قال الله عنهم: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ}[البقرة: آية 159]، وهذا يشمل أيضًا كل الذين يسيرون على تلك الطريقة من أبناء أمتنا في كتمان ما يلزم بيانه للناس من هدى الله، من كتاب الله، بحسب واقعهم، ظروف حياتهم، ما يواجهونه في ظروف حياتهم، من تحديات أو مشاكل، ومتطلبات في مسيرتهم في الحياة يحتاجون فيها إلى التبيين، يقول الله “جَلَّ شَأنُهُ”: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[البقرة: آية 174]، وعيد شديد جدًا على جريمة الكتمان لما أنزل الله من الكتاب، في المقامات التي تحتاج فيها الأمة إلى التبيين، إلى التوعية، إلى التذكير، إلى التوضيح، وإلا حصل التباس؛ لأن هناك تأثير من أهل الباطل، وأيضًا إذا بقيت الأمة من دون تبيين تضل، تنحرف عن طريق الحق، يتأثر واقعها في ذلك.
تلك التجربة هي تجربة يتضح لنا من خلالها الفرق ما بين العلم النافع، وبين تعلُّم ما يضر، وأيضًا دور العلم النافع في الحياة، الذي يمكن أن يكون له أثر كبير جدًا في واقع الحياة، وهو ضروري لصلاح الإنسان وصلاح حياته، والساحة العالمية تفتقر الآن إلى المنهجية الإسلامية، التي تجمع بين بناء الإنسان والحياة.
العرب واجهوا مشكلتين في مسألة التعليم، المشكلة الأولى: فصل المعارف المتعلقة بشؤون الحياة، والتي لفت القرآن النظر إليها من خلال حديثه عن التسخير للإنسان، تلك النعم الواسعة جدًا، التي سخرها الله للإنسان، حث الإنسان على أن يتفكر فيها، والتفكر يشمل النظر العميق، والدراسة، والمعرفة لما فيها من أسرار، من فوائد، من عجائب، من كيفيات للاستفادة منها على أساس التسخير الإلهي.
حديث القرآن الكريم واسع عن مختلف شؤون الحياة، وما يحتاج إليه الإنسان، ويفتح أبوابًا من العلوم والمعارف، ويؤسس للمعرفة أن تكون على أساس صحيح، ويربطها بغايات وأهداف عظيمة.
فالعرب لم يتجهوا على هذا الأساس، ومن اتجه منهم ليستفيد في تلك المعارف، كالعلوم الطبية، والعلوم الصناعية، في علوم الفيزياء، علوم الكيمياء، كان غريبًا، يشعر بالغربة، ومطارَدًا ومهضومًا ومحاربًا، وهذا معروف في سيرة علماء معدودين بالأصابع، فلان، وفلان، ابن سينا، فلان، الفارابي، فلان.. مجموعة معينة من العلماء الذين اهتموا بتلك العلوم، كانوا غرباء في المجتمع الإسلامي، كانوا محارَبين في المجتمع الإسلامي، كانوا مهضومين، كان اهتمامهم وتوجههم خارجًا عن نطاق اهتمام الحكومات آنذاك، الاتجاه من جانب الحُكام كان بعيدًا عن ذلك أصلًا، وواجهوا مشكلة التحريف للمعارف الدينية، التي تصلح للإنسان واقعه، السياسي، الاقتصادي، الاجتماعي، مسيرته في الحياة، تنظِمها على أساسٍ صحيح، تهيئ الأسس والأرضية المناسبة لبقية المعارف المرتبطة بما سخره الله للإنسان، من نعم في واقع حياته، فواجهوا إشكالية في هذه.
أما في واقع الغرب، وفي كثير من الدول، حتى في الشرق، التي استفادت من تطور العلوم في هذا العصر، فيما يتعلق بالمجالات المادية، وما يتعلق بشؤون الإنسان في العلوم الفيزيائية، والكيميائية وغيرها، المتعلق بمتطلبات حياة الإنسان المادية، لكنهم أهملوا العلوم والمعارف التي تبني الإنسان، تزكي الإنسان، تُكسِب الإنسان الرشد والحكمة، تصلح واقعه الاجتماعي، تربطه بغايات مقدسة، بأهداف عظيمة في هذه الحياة، تصله بالله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، تبني واقعه الروحي والأخلاقي والقيمي، فظهرت مفاسد طريقتهم في واقعهم، في التفكك الاجتماعي، في انتشار الجرائم، والمفاسد، والرذائل، في الانحطاط بالإنسان عن مرتبته الإنسانية، في صناعة الأزمات والمشاكل الكثيرة في حياة الناس: على المستوى الأخلاقي، على المستوى الاجتماعي، على المستوى السياسي، في سياساتهم التي تعتمد على الظلم، والطغيان بحق بقية الشعوب والأمم، فهم يبنون حضارة من الجانب المادي في مستوى معين، ولكنهم في بقية الأمور يوظفون حتى ما وصلوا إليه من إمكانات للإفساد، للظلم، للطغيان، لارتكاب أبشع الجرائم، عندما وصلوا إلى اختراع القنبلة الذرية ماذا فعلوا بهذا التقدم العلمي، كان من أول ما فعلوه أن يضربوا بتلك القنابل الذرية مجتمعات بشرية في مدينتين في اليابان، وأن يقتلوا الآلاف المؤلفة من الناس، من الأطفال والنساء والكبار والصغار، إبادة جماعية، وأصبح التقدم العلمي مصدر تهديد، وهو بأيديهم هم، لا يمتلكون رشدًا، ولا قيمًا، ولا مبادئ إلهية، وهم يحملون سياسات عدوانية، ونفسيات فاسدة ومتسلطة، هم طغاة مجرمون، أصبح هذا مصدر تهديد للبشرية.
بقيّة الإمكانات والوسائل لها نفع معين، يركزون أيضًا على توظيفها في الاتجاه الذي يضر بالناس، يفسدهم، ويفسد حياتهم، حتى في تقدمهم في المجال الصحي، ركزوا على الانحراف به بطريقة تضر، وأصبح همّهم الأساس: الكسب المادي، بينما منهجية الإسلام تربط الجانب العلمي بأهداف مقدسة وعظيمة، لبناء حضارة راقية، تحقق للإنسان متطلباته المادية من غير أن يجعلها الغاية النهائية، تربطهم بقيم وأخلاق عظيمة وسامية، ولا تنفصل به عن تعليمات الله ولا عن مستقبله العظيم والمهم في الآخرة، وتمنحه الرشد وزكاء النفس، لا تهدمه في نفسيته وفي زكائه.
الساحة العالمية اليوم تفتقر إلى المنهجية العلمية الإسلامية، التي تجمع بين بناء الإنسان والحياة، ولا تتجه بالإنسان لعبادة الجانب المادي، الجانب التعليمي يفتقر إلى الإصلاح. من أكبر ما أفسده في واقع العرب، في واقع المسلمين بشكل عام، الحكومات الجائرة المتسلطة، التي لم تحمل المشروع الحضاري الإسلامي، واتجهت بناءً على سياسات جائرة وظالمة، لتمكين الطغاة، والمتكبرين، والعابثين، واللّاهين، والمفسدين، كما هو معروف في التاريخ، وإلى جانبهم علماء السوء الذين أسهموا معهم في ذلك بشكل كبير، ثم إضاعة المنهجية البنّاءة، وعلى ضوء ذلك محاربة الهداة، العلماء، الذين هم علماء ربّانِيُّون، مصلحون، هُداة، حوربوا كذلك في هذه الأمة على مدى التاريخ، الهداة من آل بيت رسول الله حوربوا أيضًا، وحِيلَ بينهم وبين تقديم ما لديهم من الهدى، من المعارف النافعة البنّاءة، بشكلٍ واسع في الساحة الإسلامية.
في واقعنا في البلد، نفتقر إلى إصلاح الجانب التعليمي، إصلاح المناهج، نظم المسيرة التعليمية للجيل، من المرحلة الابتدائية إلى المرحلة الأساسية، إلى المرحلة الثانوية، إلى مختلف المراحل، المرحلة الجامعية. من المرحلة الأساسية إلى المرحلة الجامعية، نفتقر ونحتاج إلى إصلاح هذا الجانب، ليكون مثمرًا، بنَّاءً، مفيدًا، نافعًا، لأننا عندما نقيِّم الواقع التعليمي بحسب مخرجاته التعليمية، نجد أن هناك مشكلة حقيقية في ذلك، وأن هناك خللًا ملموسًا وواضحًا في ذلك، وهذا بكله يجب أن يرتبط بالتوجه العام، في إطار المشروع الصحيح البنّاء المهم، أن نتجه لبناء حضارةٍ إسلامية، مميزة، تختلف عمّا عليه الآخرون في الغرب، الذين اتجهوا لبناء حضارة جاهلية، مادية، همجية، نفعُها محدود في مستوى معين، ثم تُوظَّف بقية الأشياء فيها فيما له تأثيرٌ هدّام في واقع المجتمع البشري.
الرؤية التي يقدمها لنا الإسلام: هي أهدى وأرقى رؤية تبني الواقع المعرفي- مرتبطًا بشكلٍ صحيح- بغايات وأهداف عظيمة ومقدسة، تُصلح الإنسان، وتسمو به.
من أبرز المشاكل التي برزت في الغرب الآن –فيما وصلوا إليه من صناعات، من إنتاج، من اهتمامات مادية- هي التهديد للبيئة، هذا يدل بشكلٍ واضح على افتقارهم لتلك الأسس العظيمة، التي يقدمها المنهج الإسلامي في المعرفة وفي المشروع الحضاري.
نكتفي بهذا المقدار، والهدف منه أن نفهم أن هناك ما يضر وما ينفع في المسيرة التعليمية، في أثره على الإنسان، وفي أثره في واقع الحياة، وأن علينا أن نتحرى ما ينفع، وأن نحرص أيضًا على الانتفاع بالعلم النافع.