” الحِكمةُ” في فكرِ الشهيد القائد
كتب / عدنان الجنيد
أينما تجدُ الحكمةَ تجد العقل، تجد التدبير الصحيح، تجد الأخلاق السامية، تجد المواجهة ضد الظالمين وعدم الاستسلام للمستكبرين.. سواء على مستوى الأفراد أو الجماعات أو المجتمعات..
فلا رقي ولا حضارة ولا عزة ولا كرامة إلا بوجود الحكمة واستخدامها في السير في هذه الحياة وفق المنهج الإلهي الذي رسمه لنا في كتابه الكريم الذي قال فيه (ونزّلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء).
وإذا ما فقدت المجتمعات الحكمة كانت الفرقة والشتات والجهل والتخلف والخنوع والاستسلام لأعداء الله تعالى.
إن الشهيدَ القائدَ حسين بدر الدين الحوثي _ رضوان الله عليه _ عندما تكلم عن الحكمة إنما تكلم عنها بالمفهوم الواسع وليس بالمفهوم الضيق، لأنه_ رضوان الله عليه _ كان يحمل هموم أمة يريدها أن ترتقي من التخوم إلى أعالي النجوم يريدها أن تنطلق وتتحرك بحركة القرآن الكريم كما كان نبيها العظيم
_ صلى الله عليه وآله وسلم _ قرآناً يمشي على وجه الأرض يتحرك بحركته ويسير على منهجه (إن اتبع إلا مايوحى إليَّ).
ولهذا قال الشهيد القائد_ رضوان الله عليه _: “الحكمة أن تكونَ تصرفاتهم حكيمة، أن تكون مواقفهم حكيمة، أن تكون رؤيتهم حكيمة.. وقال _ أيضاً_ الحكمة هي تتجسد بشكل مواقف، بشكل رؤى، بشكل أعمال، هي تعكس وعياً صحيحاً، وعياً راقياً، تعكس زكاء في النفس تعكس عظمة لدى الإنسان..” إهـ
لقد انطلق الشهيد القائد في كلامه عن الحكمة من قوله تعالى: (ومن يؤت الحكمة فقد أوتى خيراً كثيراً).
والحكمة اسم لإحكام وضع الشيء في موضعه، والحكيم هو من تصدر أعماله وأقواله عن رويّة ورأي سديد..
يُقال فلان من أهل الحكمة، أي من أهل العلم والمعرفة والتبصر بحقائق الأمور وكنهها..
والحَكَمَة (بفتح الحاء والكاف) هي في اللغة ما أحاط بحنكي الفرس وتُسمى بحَكَمَة اللجام وهي حديدته التي تكون في الفرس لإحكام لجامه وسميت بذلك لأنها تمنعه من الجري الشديد وتذلل الدابة لراكبها حتى تمنعها من الجماح ومنه اشتقاق الحِكمة
_ التي نحن في صدد الكلام عنها _؛ لأنها تمنع صاحبها من أخلاق الأراذل ومن المهانة والابتذال ومن الانحطاط في سفاسف الأمور وما يخل بالمرؤة والفتوة.
والحِكمة المذكورة في قوله تعالى (ويعلمهم الكتاب والحكمة) ليس المراد بها السنة كما ذهب إليها المفسرون..
فقد أنكر الشهيد القائد هذا المعنى وقال رداً عليهم: ” إن الله تعالى قال في آية أخرى لنساء النبي (واذكرن مايتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة) هل معنى ذلك أنهن يقرأن أحاديث في البيوت؟ لا..” إهـ
قلتُ: لا يُعقل أن يكون المراد بالحكمة هي السنة في قوله (ويعلمهم الكتاب والحكمة) وذلك لأمور كثيرة منها -إضافة لما ذكره الشهيد القائد -:
إن الحكمة هي من القرآن وليس منفصلة عنه قال تعالى (وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة..) فالإنزال واحد، والحكمة هي من الكتاب مما يتلى على نساء النبي _ صلى الله عليه وآله وسلم _قال تعالى (واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة).
فهل الأحاديث كانت تتلى على نساء النبي _ صلى الله عليه وآله وسلم _؟!
مع أن الأحاديث بدأ تدوينها مع مطلع القرن الثاني للهجرة قال ابن حجر في فتحه (1/ 277): “وكان ابن شهاب الزهري أول من دوّن الحديث على رأس المائة بأمر من عمر بن عبدالعزيز “.
_ إن كلمة الحكمة مجردة عن إضافة الرسول أو النبي يعني لم يقل الله: “ويعلمهم الكتاب وحكمة النبي أو وحكمة الرسول” وإنما قال (ويعلمهم الكتاب والحكمة) وأما واو العطف فهو مثل قوله تعالى (ولقد آتيناك سبعاً من المثاني والقرآن العظيم) فالسبع المثاني هن من القرآن وليس هن السنة!!
_ إذا كان المراد بالحكمة هي السنة فكيف نفهم معناها في قوله (وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة).
فهل الله آتاهم الأحاديث التي لم يتم تدوينها إلا في مطلع القرن الثاني الهجري والتي قام بتدوينها الزهري؟!
قال الشهيد القائد _ رضوان الله عليه _: “كلمة (حكمة) في القرآن الكريم لا تعني سنة إطلاقاً، رسول الله _ صلى لله عليه وآله وسلم _ مهمته هو أن يعلم الناس هذا القرآن بما فيه من آيات وهي: أعلام وحقائق في كل مجال تتناوله” إهـ
من هذا نعلم أن الحكمة هي ذلك المفهوم الواسع للحكمة حسب ما تكلم عنها الشهيد القائد وهي منبثقة من القرآن وهي أيضاً آيات من القرآن تمنح الإنسان الحكمة إذا ما أتمر بأوامر القرآن وانتهى عن نواهيه..
قال الشهيد القائد: “القرآن الكريم فيه أشياء كثيرة تتجه نحو الإنسان لتمنحه الحكمة (ذلك مما أوحي إليك ربك من الحكمة) كما قال في سورة الإسراء بعد أن ذكر عدة وصايا ثم قال (ذلك مما أوحي إليك ربك من الحكمة).” إهـ.
وهذا يعني أن الوصايا هن آيات الحكمة لأنه تعالى قال عقبها
(ذلك مما أوحي إليك ربك من الحكمة).. وهذه حقيقة تفرد بها الشهيد القائد وغفل عنها العلماء ولا أظن أحداً تفطن إليها ونحن فهمناها من مضمون كلامه _رضوان الله عليه _ وإليك توضيح ذلك:
ذكر الله تعالى آيات في سورة الإسراء تشتمل على وصايا
وكل آية منها تبدأ بصيغة (لا تفعل) وبعضها تبدأ بصيغة (إفعل) وهي الأقل:
– لا تجعل مع الله إلاهاً آخر..
– وآتِ ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولاتبذر تبذيرا
_ ولاتجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط..
_ ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق..
_ ولا تقربوا الزنا..
_ ولاتقتلوا النفس التي حرم الله..
_ ولاتقربوا مال اليتم..
_ وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم..
_ ولا تقف ماليس لك به علم..
_ ولا تمشِ في الأرض مرحاً.
ثم قال تعالى عقب هذه الوصايا
(ذلك مما أوحي إليك ربك من الحكمة) يعني أن هذه الآيات
_ الوصايا _ هي مما أوحى الله لنبيه من الحكمة..
كذلك قال الله تعالى في لقمان الحكيم (ولقد آتينا لقمان الحكمة) ثم ذكر بعد هذه الآية وصايا لقمان لابنه وهي من الحكمة التي آتاها الله إياه:
_ (يا بني لا تشرك بالله..
_ يا بني إنها إن تك مثقال حبة.. إلى قوله: يأت بها الله..
_ يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وأنهَ عن المنكر واصبر على ما أصابك..
_ ولا تصعّر خدك للناس ولاتمشِ في الأرض مرحا..
_ واقصد في مشيك واغضض من صوتك).
وهكذا كل آية تبدأ بصيغة (إفعل) أو (لا تفعل) تدخل ضمن آيات الحكمة التي ذكرناها آنفا.
وآيات الحكمة هن المراد من الحكمة في قوله (واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة..) ومن قوله (ويعلمهم الكتاب والحكمة..) ومن قوله (وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة) وغيرها من الآيات التي تُعرف بالقرينة والسياق وهذه الآيات
الوصايا الحكيمة تمنحك الحكمة كما ذهب إلى ذلك الشهيد القائد
نعم تمنحك الحكمة بالعمل بها بأن تأتمر بأوامرها وتنتهي عن نواهيها بل إن العمل بمنهجية القرآن هو من سيجعلنا كلنا حكماء؛ لأنه (كتابٌ أُحكمت آياته).
قال الشهيد القائد _ رضوان الله عليه_ ” إنه _ أي القرآن _ في الأخير يجعل كل من يسيرون على وفق توجيهاته ويتثقفون بثقافته يُمنحون الحكمة، والعكس الذين لايسيرون على ثقافة القرآن، لايهتمون بالقرآن، سيفقدون الحكمة، وسيظهر مدى حاجة الناس إلى الحكمة في المواقف المطلوبة منهم في القضايا التي تواجههم..” إهـ
ثم أتى الشهيد القائد بمثال عن من فقدوا الحكمة قال _ رضوان الله عليه _:” الآن في هذا الوضع الذي نعيش فيه وتعيش فيه الأمة العربية، الأمة الإسلامية، ونحن نسمع تهديدات اليهود والنصارى، تهديدات أَمريكا وإسرائيل وسخريتها من الإسلام ومن المسلمين ومن علماء الإسلام ومن حكام المسلمين بشكل رهيب جداً تجد موقف الناس بكل فئاتهم يتنافى مع الحكمة أي هم فقدوا الآن الموقف الحكيم مما يواجهون، الرؤية الحكيمة لما يواجهون، النظرة الصحيحة للوضع الذي يعيشون..”إهـ
إذاً لا مخرج لهم من هذا الإنحطاط الذي وصلوا إليه إلا بالتمسك بالقرآن الكريم وذلك بالتثقف بثقافته والسير على نهجه حتى يمنحهم الله الحكمة ويكونوا كما قال الله (أذلة على المؤمنين أعزة على الكفرين).