الحقائق اليمنيَّة ومشهد المنطقة
الحقيقة/ نور الدين اسكندرالمصدر: الميادين نت
يستمرّ الجيش واللجان الشعبية بتحقيق المزيد من التقدّم الميداني على جبهات المعارك في اليمن، فيما يستمرّ التحالف السعودي في عدوانه على هذا البلد المنحدر بصورةٍ متسارعة إلى هوة أزمة إنسانية مخيفة.
منذ تسلّم الرئيس الأميركي جو بايدن زمام السلطة في واشنطن، تعيد إدارته قراءة موقف الولايات المتحدة من ملفات الشرق الأوسط. ويحوز ملفان أساسيان صدارة أولويات الاهتمام في المنطقة، هما الملف الإيراني بتشعباته المتعددة وملف التطبيع العربي مع الكيان الإسرائيلي، وفق مقاربة تقوم أولاً وأخيراً على أهداف المشروع الأميركي في المنطقة.
وتشكّل الحرب الدائرة منذ سنوات في اليمن أحد أهم الملفات المرتبطة بالملفين الأساسيين المذكورين، ذلك أنَّ تلك الحرب التي شنّها التحالف المدعوم أميركياً على اليمن كدولة وشعب وقوى حيّة هي في الواقع مقدّمة لتمهيد البيئة الإقليمية في سياق السعي الأميركي لتمرير التطبيع ومحاصرة القوى القادرة على مقاومته، ومن خلفها القوة المركزية الرافعة لمشروع المقاومة وعناوينه، والمتمثلة بالجمهورية الإسلامية في إيران.
وتتعاطى إدارة الرئيس بايدن مع الملف اليمني من منطلق إعادة هندسة المنطقة وفق العنوانين الكبيرين لمصالحها في المرحلة الحالية، فالمراد أميركياً كحلٍّ مثالي للأزمة اليمنية أن تفضي إلى نتيجةٍ سياسية تمنع قوى المقاومة من التأثير السياسي في نظام الحكم في اليمن، وتضع الإدارة السياسية اليمنية في مدار قوى الحرب عليه، وتنتظم القوى اليمنية تحت تأثير المملكة العربية السعودية تحديداً، الأمر الذي يفتح المجال لتطويق قوى المقاومة في كلٍ من العراق وسوريا ولبنان.
تقوم هذه النظرة على افتراض أن تحقيق هذه النتيجة في اليمن سوف يشجع قوى دولية أخرى على المسارعة إلى حفظ حصتها من النفوذ في المنطقة على حساب محور المقاومة، فتهرع روسيا إلى اقتطاع سوريا من المشهد قبل أن تصل موجة اجتياح “النجاحات” الأميركية إليها، ثم تكون هذه الخطوة على حساب الوجود الإيراني مع قوى المقاومة فيها.
بعد ذلك، تستفرد بقوى المقاومة في لبنان والعراق، كل على حدة، على قاعدة انقطاع الاتصال الجغرافي بين مكونات المحور، وبالتالي يُؤخذ البلدان معاً إلى الحياد المطروح اليوم كعنوان لمواجهة المشكلات الاقتصادية والأمنية والسياسية فيهما، على أن يصبّ كلّ ذلك في خدمة مشروع التحالف مع الكيان الإسرائيلي، والمسمى “دلعاً” التطبيع وصنع السلام.
تنشط إدارة بايدن اليوم في إعادة توحيد حلفائها في المنطقة، وترميم العلاقات التي تصدعت بينها وبينهم من ناحية، وبين بعضهم البعض من ناحية ثانية، بدءاً من المصالحة القطرية – الخليجية التي كانت أولى الملفات الناشطة بعد تسلّم بايدن مقاليد الرئاسة، وانتقالاً إلى المصالحة المصرية – التركية الموضوعة اليوم على نارٍ حامية، والتي تجري في سياقها خطوات متسارعة من التطورات السياسية والاقتصادية المصاحبة لها، مثل التحالف الغازي (غاز شرق المتوسط) المتوسع في شرق البحر المتوسط، والذي سيكتمل بانضمام تركيا إليه، وهو يشمل الكيان الإسرائيلي وقبرص واليونان ومصر والأردن وفلسطين، برعاية وحضور كلّ من فرنسا والولايات المتحدة، فيما يدفع الكيان الإسرائيلي إلى إبقاء لبنان وسوريا دولتين معزولتين غير قادرتين على استخراج ثرواتهما الغازية في المنطقة الخاصة بهما وتصديرها.
وفي هذا السياق، كانت آخر الخطوات تتمثل بتودّد وزير الطاقة الإسرائيلي إلى تركيا وإعرابه عن أمله بانضمامها إلى المنتدى. هذا الملف تحديداً يشهد تطورات متسارعة، إذ أعلن الأعضاء المؤسسون للمنتدى عن دخول ميثاقه حيز التنفيذ في الأول من آذار/مارس 2021، بعد إطلاقه في كانون الثاني/يناير 2019، وتحول إلى منظمة حكومية دولية مكتملة الأركان مقرها القاهرة.
حسابات واشنطن وحقائق الميدان
لكنَّ حسابات الحقل الأميركي لا تبدو متّسقةً مع حسابات بيدر الميدان في اليمن من ناحية، وفي العراق وسوريا ولبنان على مستوى التوازنات السياسية وقوة أطياف المحور من ناحيةٍ ثانية، فحقائق القوة في المنطقة مختلفة تماماً عن الفرضيات التي تبدو إدارة بايدن مراهنة عليها اليوم، إلى حدٍ تبدو معه هذه الإدارة متجهةً إلى أن تعيد سيَرَ سالفاتها من الإدارات التي توهمت فأخطأت مراراً وتكراراً، وكانت نتيجة هذه التوهمات وتلك الأخطاء كارثية على دول المنطقة، وإزهاقاً متتالياً للأرواح والمقدّرات والوقت، وتدميراً لركائز الدول قبل أن تكون تحقيقاً لمشروعات سياسية قابلة للحياة.
إنَّ القاعدة الَّتي لا تريد الإدارات الأميركية تصديقها في سياق مقارباتها تجاه الشرق الأوسط هي أنّ “الصراع مرهونٌ بحقائقه”، وليس بالزاوية التي تتوهمها هذه الإدارات له. ففي الميدان، يقف “أنصار الله” والجيش واللجان الشعبية اليوم في موقف قوي جداً أمام العدوان الذي تمارسه المملكة العربية السعودية وحلفاؤها من الدول والأطراف في اليمن.
وتكتسب محافظة مأرب، حيث تتركّز المواجهات راهناً، أهمية عسكرية وسياسية واقتصادية، جعلت دول التحالف السعودي تراهن عليها منذ بداية المعركة، فالمحافظة التي يرجّح أن يسيطر الجيش واللجان الشعبية (وفق معطيات الميدان) عليها تعتبر القاعدة العسكرية الأولى والأكبر لقوات التحالف السعودي وحكومة هادي. وقد جعلها موقعها الجغرافي واحدة من أهم المواقع العسكرية، إذ تضمّ مقارّ وزارة الدفاع وقوات التحالف السعودي، ورئاسة هيئة الأركان العامة، وقيادتي المنطقتين العسكريتين الثالثة والسابعة التابعتين لحكومة الرئيس هادي، وتكتسب معركة مأرب أهمية استراتيجية كبرى في الحرب التي يخوضها اليمنيون ضد الحصار الذي تقيمه قوات التحالف السعودي.
وإلى جانب ذلك، تحوز هذه المحافظة أهمية اقتصادية، تتمثَّل بوجود آبار للنفط فيها. إنَّ انطلاق العمليات العسكرية في مأرب دفع التحالف السعودي إلى التصعيد في كل الجبهات للتغطية على معركتها، وخصوصاً أن المزاج الشعبي في المدينة مناهض بغالبيته لقوى التحالف.
ويحاول التّحالف السّعودي استخدام كلّ قدرته في مأرب، نظراً إلى المخاطر المرتبطة بخسارتها كمركز قوته وقوة التنظيمات الإرهابية المتمركزة فيها، كتنظيمي “القاعدة” و”داعش”، والتي قد تبدل المشهد نحو انهيار متسارع لمحافظات أخرى يسيطر عليها حلفاء قوى العدوان. كما أنَّ الآثار الإيجابية بالنسبة إلى الجيش واللجان الشعبية ستكبر في حال السيطرة على مأرب، ارتباطاً بزيادة القدرة على تأمين الوقود والغاز والكهرباء من المحافظة، في مقابل خسارة قوى العدوان لهذه المقدرات.
على المستوى السياسيّ، إن المواقف الغربيّة المحذّرة من حسم معركة مأرب لمصلحة الجيش واللجان الشعبية تبيّن بوضوح خوف حلفاء السعودية الغربيين من انفراط عقد المحافظات التي يسيطر عليها حلفاؤهم في الميدان الواحدة تلو الأخرى، ما سيؤدي إلى انكشاف حجم الدعم الذي تؤمّنه هذه القوى للتنظيمات الإرهابية، في الوقت نفسه الذي تدّعي محاربتها للإرهاب.
شعب يُقتل بالعدوان والتّجويع
استمرار التحالف السعودي في عدوانه لا يقتصر على القتل اليومي الذي تديره السعودية في اليمن، بل يمتد إلى الأزمة الإنسانية التي تسبب بها العدوان، فالمفوضية الأممية لشؤون اللاجئين في اليمن أعلنت بوضوح عدم وجود موارد لديها تغطّي الاحتياجات الطارئة، جراء النزوح المتواصل بسبب الحرب المتواصلة، وخصوصاً في محافظات حجة وتعزّ ومأرب، في حين تتواصل موجات النزوح الداخلي في بعض المناطق مع استمرار الحرب.
أصوات المدنيين تحت ركام منازلهم ما يزال يمثل الهوية الصوتية الراهنة ليوميات اليمن. وقد تواصلت غارات التحالف في الأيام الأخيرة لتحصد أرواح المزيد من اليمنيين في سوق “البداح” في مديرية عبس. وبين تقدّم الجيش واللجان الشعبية في مأرب واستمرار العدوان في إزهاق أرواح المدنيين وحصارهم في المحافظات التي يسيطر عليها “أنصار الله” والجيش واللجان، تمكّن هؤلاء من قلب الصورة في تعز خلال الأيام الماضية، فاستعاد الجيش واللجان حوالى 80% من المناطق التي خرجت من دائرة سيطرتهما مؤخراً، لتفشل بذلك الهجمة التي أريد منها تحقيق توازن ميداني يمكن من خلاله المقايضة مع جبهات مأرب.
هذا الواقع الميدانيّ يدفع قوات التحالف إلى تصعيد الضّغط على المستوى الإنساني، وهم يراهنون على تأثيره في مقاتلي الجيش واللجان الشعبية، لمنعهم من استكمال مسار انتصاراتهم الميدانية، فيما تشهد المناطق التي يستمرّ التحالف بعدوانه عليها موجة نزوح من المدنيين، إذ أعلن المتحدث باسم المفوضية الأممية لشؤون اللاجئين لدى اليمن، جون نيكولا بوز، أن الوضع الإنساني في اليمن مأساوي، بسبب اشتعال المعارك في 3 جبهات، هي مأرب وتعز والحديدة، وأن نحو ثلاثة ملايين يمني اضطروا إلى النزوح بسبب هذه المعارك في ظروف إنسانية صعبة للغاية، فيما يبحث مئات الآلاف عن مأوى لهم، في وقت تتفشّى الأوبئة بشكل كبير.
إنَّ الواقع الإنسانيّ الكارثيّ الذي وصلت إليه البلاد، والذي تشير إليه المفوضية، لا يدفع حتى اللحظة بقوى التحالف إلى إعادة النظر في الحرب الفاشلة سياسياً وعسكرياً على اليمن. ولعلَّ حقن الدّعم السياسيّ الّذي تتلقّاه هذه القوى من تطورات المشهد الشرق أوسطي يسهم إلى حدٍ كبير في تشجيعها على مواصلة الفتك باليمنيين، على الرغم من تكرار المسؤولين الأميركيين انتقاداتهم للسعودية بهذا الخصوص، غير أنَّ المسار العملي (المختلف عن التصريحات) لسياسة بايدن في المنطقة يدفع بقوى التحالف السعودي إلى المزيد من التوغل في الحرب أكثر فأكثر. المفوضية السامية لشؤون اللاجئين تقول إنَّ خمسة ملايين يمني على الأقل يعانون المجاعة الآن، فيما لا يتلقّى الشعب اليمني المساعدات بحسب مقدار الحاجة.
وفي الوقت الذي تزداد الضغوطات التي تفرزها الأحداث على اليمنيين الضعفاء، لم تتلقَ المنظمات الدولية سوى نصف ما وُعدت به من التمويل لمواجهة هذا الوضع (خلال شهر آذار/مارس الحالي، تعهّدت الدول المانحة بتقديم 1.7 مليار دولار لتمويل المساعدات الإنسانية في اليمن، فيما كانت الأمم المتحدة تسعى للحصول على 3.8 مليار دولار خلال العام الحالي لمكافحة الجوع)، وهي تعلن أنها لا تستطيع أن تستمرّ في العمل في هذه الظروف مع نقص الموارد واستمرار الحرب.
مستقبل الحرب
لا تبدو للحرب في اليمن نهاية قريبة، بحسب التوقعات الواقعية المرتبطة بالمعطيات السياسية المتغيرة في المنطقة، لكنَّ التطورات الميدانية قد تفاجئ المراهنين على تصعيد الضغط الأميركي على إيران وحلفائها في المنطقة، وخصوصاً إذا ما تمكَّن الجيش واللجان الشعبية من انتزاع السيطرة على محافظاتٍ جديدة، قد تؤدي في ما لو استمرَّت على وتيرتها إلى انهيار مفاجئ للقوات المتحالفة مع السعودية وعدوانها المستمر، وهو الذي أوصل اليمن خلال السنوات الستّ الماضية إلى الانزلاق نحو ما تقول الأمم المتحدة إنَّها أكبر أزمة إنسانية يشهدها العالم منذ عقود.
لقد طالت الصّواريخ اليمنيّة في الأيام الأخيرة العاصمة السّعودية الرياض، بعد اعتيادها في السابق الوصول إلى كبريات شركات إنتاج الطّاقة ومحطات تكريرها وطرق إمدادها، الأمر الَّذي لم يأخذ حتى الآن حقّه من التحليلات المرتبطة بمستقبل اليمن والصّورة المستقبليّة للأمن الإقليمي، فمن يتمكَّن اليوم من ضرب هذه المواقع بسهولة تامة، لا يمكن إزاحته عن المشهد الإقليمي، فضلاً عن استحالة حذفه من المشهد اليمني الذي يمثّل فيه جزءاً كبيراً من الشّعب.
لذلك كلّه، ولغيره من الأسباب، تبدو الأزمة اليمنيَّة أكثر فأكثر مكمن خسارة استراتيجيّة كبرى للسعودية، ومعها قوى التحالف الأخرى، ومصدر خسارة أكثر وضوحاً للمشروع الأميركيّ في المنطقة، والّذي يواجه يومياً حقائق القوة في الشرق الأوسط، ولكنه يعاني آثار إنكارها.