الثورة تُعري الجِيَفْ الفُندقية !
ليس هناكَ أسوأ، ولا أقسى، ولا أشدُّ إيلامًا، أكثرَ من اكتشاف أنَّكَ تُخْدَعْ، ويكون الألمُ مضاعفًا حين تجدُ الخِداع، لا يستنزف مالكَ، أو جُهدَك، أو وقتكَ فقط،
بل يستهدِفُ بشكلٍ كامِل؛
كينونتكَ، ووجودَكْ.
جاءتني هذه الفكرة، وأنا أرى حشود الأمس، بل ذلك الطوفان البشري لثورة 21 سبتمبر، وتأملتُ بِعُمق، وقد استعرتُ عيون الغزاة، لمُراقبةِ المشهد، وقراءة الواقِعْ، وتفسيرَ ما حَدَثَ ويحدُثْ.
إنَّ مشاهدة تلك السيولَ الجارفة، والأمواج البشرية، بِعيون الغُزاة؛ صدمة قاسية، بل ضربةٌ قاصمة، ودُوارٌ شديد، وحيرةٌ مذهلة، ولا يحتاج تقليبَ البصرِ إلى حديث، أو تفصيلٍ وبيان، أو استدعاءٍ لدليلٍ أو بُرهان.
وقد يَرى البعضُ في الأرقامِ التي قدرناها بعشرة ملايين مُبالغة، لكن أبصارهم لن تُبالِغَ، وهي تعكسُ لهم امتلاءُ السبعين ومداخله، وتَشبُّع صنعاء بالسيارات، وانسداد مداخلها بالقادمين، وكذلك انتهاء الحفلِ وما يزال كثيرٌ من الوفود في طريقهم، ولم يوقفهم إلا امتلاء الساحات والشوارع.
لم يَكُن يومًا عاديًا، ولم يكن يومًا استثنائيًا، بل كانَ مُعجِزةً ربَّانية، نعم! معجزةً ربانية!
لا تسألوني كيفَ؟ ولماذا؟ وما الدليل؟
لأن الأدلة جميعها تَغْرقُ في بحرِ الحَدَثْ!
لقدْ غرِقَ العدو من هولِ الصدمة!
وتوارى العُملاء من شدّةِ الكرب!
وامتلأت قلوبُ المُؤمنين يقينًا وتسبيحًا وشُكرا!
لم يَحدُث في التاريخ، أن تنطلق دعوةٌ من قائد قبل ثلاثة أيام، ويجددها ليلة الاحتفال،
تحتَ حصارٍ خانق، وحربٍ ضروس، ومعاناةِ ثلاث سنوات؛ ثم يخرُج الشعبَ خروجًا مليونيًا نادرا وفريدًا.
هذا الخروج الهادرُ والمُحَيِّر، لم يكن لِهَزِّ الأَعلام، أو لترديد الشعارات الجوفاء، أو لمشاهدةِ الرقصاتِ والعرضات، بل كان خروجًا لا يشبهه خروج، فقد جاءت الوفود، بالعدة والعتاد، في صورٍ حيَّة ، تُتْبىء عن وعيٍ جديد، وأمةٍ مختلفة، وثقافةٍ منتصرة!
كانتْ مناظِرُ العدة والعتاد، تَهز القلوب والأنفس؛
مِنْ أولئك الذين لبسوا لامة الحرب، وبأيديهم سلاحهم الكامل، وهم في أهبة الاستعداد للانطلاق إلى الجبهات،
إلى أولئك الذين أنفقوا بسخاء، في مشهدٍ يتوقف له الفؤادُ إجلالاً وتقديرا؛
فهذا يقدم عشرات السيارات الجديدة من الشاصات،
وهذا يقدم العشرات من سيارات الإسعاف،
وهذا يقدم المآت من الدراجات النارية،
علاوة عن الآلاف أو عشرات الآلاف من الأغنام والأبقار والمواد الغذائية.
كل هؤلاء، وكل هذا العطاء، وكل هذا الحضور، وكل هذا الإقبال، وكل هذا الكرم، وكل هذا الإصرار، وكل هذا السِّباق، كان استجابةً لدعوة القائد، وتلبيةً لنداء الثورة، وعهدًا لاستكمالها.
ولقد قابل الملايين المحتشدة، تنظيم وترتيب وتدقيق، ينم عن أيادٍ مخلصة، وقلوبٍ مؤمنة، ونوايا صادقة، فلكلِّ فردٍ شاركَ في الحضور أو الدعم أو التنظيم ألف تحية، ولكل العظماء في ساحات العزة والبطولة ملايين العِرفان والامتنان، ولكل الأمهات والأخوات من التحيات، بحجم الساحات، فالجميع كانوا هم عنوان النجاح، وهم بشائر الانتصارات.
ولا أشك أن المرتزقة في فنادق الرياض، وعمَّان والقاهرة، واسطنبول، تمنوا أن تبتلعهم الأرضَ، قبل أن يشاهدوا في يوم 21 من سبتمبر تلك العدة والعتاد.
ومتيقن كثيرًا بأن الغازي وإن كابر؛ قد أدركَ؛
أنَّهُ خُدِعَ، وما يزال يُخدعَ كل يوم، وأنَّ مالديه من هاربين إنما هم جِيفٌ لا تمتلك أي قيمة إلا بما يُغدق عليها من مالٍ ومُرتباتٍ، واعتماداتٍ ونثريات.
وأنهم لا يستطيعون أن يَتَحركوا أو يُحَرِّكوا؛ إلا بميزانياتٍ ضخمة وصرفياتٍ هائلة من البقرةِ الحلوب.
وأنه لو توقفَ الدَّعم عن تلك الجِيف الفندقية، لتجرأ عليهم وطَرَدهم الفرّاش البنقالي والطباخ الهندي والسائق الباكستاني شرَّ طردة، وهم بهذه الحالة إلى الخسران، والهزيمة والامتهان، والذلة والخذلان!
ولقد أيقنَ الغزاةُ جيِّدًا بأن الشعبَ اليمني، هو هذا الذي يخرج في الساحات، تحت القصفِ والحصار، وهو في أقسى ظروفه الصعبة، ومُستعِدٌّ أن يُلبي نِداء القائِدَ بِحبٍّ وإصرار، ويخرجَ بالملاييين، ويجودَ بكرم، ويقدم الغالي والرخيص!
ومن كان هذا حاله، فهو الموعود بالنصر والعزة والتمكين!