التطبيع مع إسرائيل: «العمق الاستراتيجي» للإسلام التركي و.. أخواته!
لم تخرج تركيا من إسرائيل، لنقول إنها عادت إليها. فالعلاقات التركية ـ الإسرائيلية أكبر وأعمق وأشمل من أن تحدّ منها مسألة اعتذار او تعويض.
أما شرط رفع الحصار عن غزة، فلم يكن يوماً شرطاً بنيوياً لتطبيع العلاقات، بقدر ما كان ورقة استغلال لتوظيفها في الداخل التركي، لكسب أصوات المتدينين البسطاء المخلصين فعلاً للقضية الفلسطينية، كما في الخارج لتغطية العدوان التركي المفتوح على سوريا منذ العام 2011 وحتى الآن. حتى إذا لم تعد هذه الورقة صالحة للاستخدام، رماها أردوغان في سلة القمامة غير سائلٍ عن قضية ولا من يحزنون.
لم تعد تركيا إلى إسرائيل ولا إسرائيل الى تركيا.
منذ حادثة دافوس في العام 2009 وحادثة اسطول الحرية عام 2010، لم تتغير العلاقات التركية الإسرائيلية إلا في الخطابات الرسمية والإعلام.
لم تنقطع العلاقات الديبلوماسية. فقط تمّ سحب السفراء، والقنصل الإسرائيلي في اسطنبول استمرّ محور حركة ديبلوماسية ناشطة مع المسؤولين الأتراك. والمثير اليوم أنه بالكاد تم توقيع الاتفاق، حتى أُعلن عن اعتماد سفراء وقرب تسلمهم مناصبهم في استعجال فائق لاستكمال التطبيع والتفرغ للمهام الخطيرة الجديدة.
التعاون الأمني والعسكري بين البلدين لم يتوقف. صحيحٌ أنه تراجع، لكنه لم ينقطع، والاتفاقيات الأساسية استمرّت في العمل. ومن ذلك، رفع فيتو تركي على مشاركة إسرائيلية في مناورات أطلسية.
أما على الصعيد الاقتصادي، فإن الصورة بالغة الدلالة على نمو العلاقات بين البلدين. رغم حادثة سفينة مرمرة، ومن قبلها دافوس، فإن العلاقات الاقتصادية نمت منذ العام 2010 ثلاثين في المئة في كل سنة عن السنة التي قبلها. وارتفع التبادل التجاري من مليارين ونصف المليار دولار في العام 2011، إلى ستة مليارات دولار في نهاية العام 2015. ولم تجد تركيا زبوناً يشتري نفط «داعش» المسروق من سوريا والعراق كما نفط اقليم كردستان سوى إسرائيل، ولم تنقطع بواخر براق رجب طيب أردوغان عن الحركة بين موانئ تركيا وموانئ إسرائيل.
لذلك فإن الصفة الاستراتيجية للعلاقات بين البلدين، بمعزلٍ عمن يحكم في تركيا، من ثوابت هذه العلاقة. وما جرى هو تزخيم لما كان قبل العام 2011، بل يمكن القول إنه عودة بالعلاقات إلى ما قبل العام 2002 تاريخ وصول حزب «العدالة والتنمية» إلى السلطة. عادت العلاقات إلى ما كانت عليه كما لو أن فترة حزب «العدالة والتنمية» لم تكن قائمة.
لكن المساءلة لا يمكن أن تمرّ كأن شيئاً لم يكن. لأن تطوير العلاقة مع إسرائيل في ظل حكم علماني او عسكري في تركيا هو خلافه في ظل حكم إسلامي.
وتضمن الاتفاق التركي ـ الإسرائيلي الكثير من البنود التي تشكل جوهر الاتفاق فيما التركيز الاعلامي كان على الاعتذار والتعويض وإرسال المساعدات الانسانية.
في الواقع، لا أحد ضد تخفيف المعاناة على غزة. إنشاء محطة كهرباء ومحطة للمياه ومستشفى أمر يدعمه الجميع. لكن هذا المكسب الوحيد للفلسطينيين ليس سوى ذرة مقابل حجم المكاسب التي حققتها إسرائيل من الاتفاق، بحيث إن الفلسطينيين يقعون في التضليل عندما يقبلون بالتبريرات التركية لعدم الإصرار على مطلب رفع الحصار عن غزة، وفي وقت مارست سلطة حزب «العدالة والتنمية» التضليل الإعلامي بأن تُعنون صحيفة «صباح» صفحتها الأولى بعبارة «رفع الحصار عن غزة»!. بل أكثر من ذلك، ما قاله أردوغان في إفطار مساء الأربعاء الماضي عن ناشطي سفينة مرمرة: «وهل سألتموني، كرئيس حكومة حينها، مسبقاً، عندما ذهبتم لتقديم المساعدات الإنسانية؟»، وهو ما اعتبرته ردود فعل كثيرة في مواقع التواصل الاجتماعي التركية تخلياً كاملاً عن تلك الرحلة وتبريراً للهجوم الإسرائيلي على السفينة.
ومقابل محطة الكهرباء ومحطة المياه والمستشفى، انفتحت أكبر سوق امام المنتجات الإسرائيلية، هي سوق 80 مليون تركي. وانفتح التعاون الأمني والعسكري والاستخباري بين تركيا وإسرائيل على مصراعيه، وفقاً لأحد بنود الاتفاق. وما أدراك ما اللقاء بين استخبارات البلدين في مروحة واسعة من المشكلات، وفي لحظة غليان غير مسبوقة في تاريخ المنطقة.
وستصدِّر إسرائيل غازها الى أوروبا عبر تركيا لتساهم في زيادة رفاهية الإسرائيليين، وفي تكبيل الحركة السياسية للتركي.
مجرد أن يوصف الاتفاق بأنه تاريخي واستراتيجي هو تأكيد على البعد الإسرائيلي من الدور التركي في المنطقة والعالم.
وهو بُعدٌ لم يغادر الدور التركي حتى خلال سنوات الفتور الأخيرة مع اسرائيل. وبدلاً من أن تقوم اسرائيل بعدوان على مراكز المقاومة في لبنان أو الجيش السوري في سوريا، فقد تكفلت تركيا منذ بدء الأزمة في سوريا على القيام بالدور التدميري والتفتيتي الذي هو هدف اسرائيلي بامتياز. وعملت تركيا على احتضان الجماعات التكفيرية من كل النواحي وهو ما فعلته اسرائيل بفتح حدودها امام هذه الجماعات للعلاج وطلب المساعدة. ولقد كان لتركيا دور كبير في زرع وتأجيج الفتن المذهبية، وهو مصلحة إسرائيلية بامتياز. إن كل ما فعلته تركيا في سوريا والعراق كان ربحاً إسرائيلياً صافياً. وليس نعت تركيا لـ «حزب الله» بأنه «حزب شيطاني» سوى الوجه الآخر لوصفه من قبل إسرائيل بأنه حزب ارهابي.
ولم تكتفِ تركيا بكل هذه الخدمات للمشروع الصهيوني حتى تعود لتمارس هذه الخدمات الآن بشكل رسمي مع الكيان الإسرائيلي. فماذا يعني التعاون الاستخباري والأمني والعسكري العلني والرسمي هذه المرة مع اسرائيل، بل إدراجه كبند في اتفاقية التطبيع، سوى ان يكون رسالة موجهة ضد القوى المنخرطة في محور الممانعة والمقاومة، ومنها قوى فلسطينية؟ ما معنى ذلك إسرائيلياً، سوى انه يساعد على مشروع تفتيت المنطقة وترسيخ الاستيطان واستمرار الاحتلال الإسرائيلي للضفة ومحاصرة قطاع غزة؟ بل أليس القبول ببند ارسال المساعدات دون كسر الحصار على غزة قبول تركي بشرعية الحصار على غزة؟
إذا كانت فعلت تركيا كل هذا في مرحلة الفتور السياسي في العلاقة مع اسرائيل، فما الذي سيكون عليه الحال في مرحلة ما بعد توقيع الاتفاق الجديد مع اسرائيل؟ إن ما جرى ناقوس خطر ينبئ بأن الآتي أعظم وبأن الخطر التركي سيكون أكبر من الآن.
لم تعد اسرائيل بموجب هذا الاتفاق، من زاوية انقرة، تهديداً وخطراً على تركيا ولا على السلام والاستقرار في المنطقة، بينما في المقابل تبقى سوريا بنظر أنقرة عدواً والرئيس السوري بشار الأسد خطراً، ومحور المقاومة تهديداً.
يكثر اليوم في تركيا الحديث عن التطبيع الذي حصل مع اسرائيل أولاً وما يمكن أن يحصل مع روسيا، وأخيراً إمكانية الانفتاح على مصر. إسرائيل في الأساس لم تكن خصماً. بل من يتابع وسائل الإعلام التركية المؤيدة لأردوغان يدرك مدى الفرحة باتفاق التطبيع. فوزير الاقتصاد نهاد زيبكتشي لم يتمالك نفسه من الفرح عندما قال إنه «يفرحني جداً تعزيز العلاقات مع إسرائيل وستنفتح آفاق بمليارات الدولارات بيننا».
اما الكلام المستجد مع روسيا، فليس من معنى له إذا لم يترجم تغييراً في السياسات التركية تجاه سوريا والعراق وتجاه التنظيمات الإرهابية. وهنا ستكون روسيا أمام امتحان دقيق بعدما اخطأت في امتحان وقف النار في سوريا، وجعلت بعض تضحيات المقاتلين هباء.
ربما يكون مفهوماً في العلاقات الدولية استغلال اللحظة المناسبة لتحقيق خرق ومكاسب. واللحظة هنا هي تفجير مطار أتاتورك في اسطنبول الثلاثاء الماضي والصدمة التي وقعت فيها تركيا. وهو ما يعتقد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أنها فرصة لدفع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لتغيير مواقفه والتعاون لمحاربة الإرهاب. لكن بوتين ذهب بعيداً جداً عندما دفع مسبقاً عداً ونقداً ثمن بضاعة لا يعرف ما هي، بل ما إذا كانت توجد بضاعة فعلية أصلاً، وذلك بمسارعته إلى رفع منع السفر الى تركيا عن السياح الروس وكذلك إلغاء العقوبات الاقتصادية.
المسألة لم تكن مجرد اعتذار تركي (ملتبس) وتعويض تافه ومحاكمة صورية لقاتل الطيار الروسي، بل الأمل بأن تعود تركيا الى سياسات عقلانية في سوريا تحديداً. ذلك ان أي تغيير في الموقف التركي لا يشمل وقف دعم أنقرة للإرهاب في سوريا والعراق، وإغلاق حدودها أمام تدفق المسلحين والأسلحة الى الداخل السوري، لا معنى له من أي زاوية نظر اليه. وفي حال لم يحصل ذلك، فإن روسيا تكون قد وقعت ضحية الطعن التركي في الظهر للمرة الثالثة، بعد إسقاط الطائرة ووقف النار، والشاطر لا يلدغ من جُحرٍ مرتين؛ فكيف بثلاث مرات. وهذا لا يليق بدولة عظمى.
وإذا كانت تركيا تعتقد أنها بتطبيع العلاقات مع إسرائيل ومع روسيا يمكن أن تنفذ برأسها من عدالة التاريخ، فهي مخطئة. فسوريا هي البداية وسوريا هي النهاية وما بينهما مصر التي أيضاً يحاول أردوغان أن يجعل منها روسيا ثانية وكأن شيئاً لم يكن. ذلك أن أنقرة على قاعدة المثل «تحور وتدور والمطلوب واحد» أو «مرتا مرتا تهتمين بأمور كثيرة والمطلوب شيء واحد». تشرّق تركيا وتُغّرب، ولكنها لا تشير الى سوريا. تعرف تركيا أن الكل هوامش من اسرائيل الى روسيا، وتعرف أن أصل المشروع التركي هو في سوريا، بوابته الى العرب والمسلمين. وتعرف أن سقوط دمشق والصلاة في الجامع الأموي هما المدخل الحتمي لسقوط القاهرة والصلاة في جامع محمد علي (قاهر الدولة العثمانية). لكن صمود دمشق كان الشرط اللازم لسقوط المشروع الأردوغاني في القاهرة.
وعندما نقول سوريا، فهذا يعني العلاقة بين تركيا و «داعش». يغضب الأتراك عندما يشير الإعلام إلى علاقتهم بـ «داعش». أليست غالبية قاعدة حزب «العدالة والتنمية» لا ترى في «داعش» تنظيماً إرهابياً؟ أليس أردوغان وداود أوغلو يقولان إن داعش «نتيجة» وليس سبباً لتبرير ظهوره ووجوده؟ أليس هناك على الأقل ثلاثة ملايين شخص راشد في تركيا يشكلون بيئة حاضنة مباشرة لـ «داعش» ويمثلون 13 في المئة من قواعد حزب «العدالة والتنمية» وحده دون آخرين من التيارات الإسلامية المتشددة في تركيا؟
لا شك في أن عملية مطار اسطنبول تحمل تكتيكات «داعش». ولكن حتى الآن التنظيم الإرهابي لم يتبنّ العملية، وهو الذي يسارع عادةً إلى تبنّي العمليات في كل مكان بعد ساعات قليلة من حدوثها. وهو لم يتبنّ أي عملية تفجير حتى الآن في الداخل التركي. ما لم يتبنّ «داعش» العملية بشكل رسمي، فإن اتهامه ليس في محله، وبالتالي يجب التفتيش عن جهة أخرى. ذلك أنه ليست حتى الآن أي علامات أو إشارات تحمل على الاعتقاد أن موجبات العلاقة بين أنقرة و «داعش» قد انتفت. أما إذا كان «داعش» فعلاً وراء العملية وأعلن ذلك في بيان رسمي، فهذا يعني أن هناك انقلاباً داعشياً على العلاقة مع تركيا لأسباب غير معروفة بعد، وسيفتح هذا باباً للموت لن تستطيع تركيا صدّه بسهولة. وفي الحالتين، فإن تركيا تدفع ثمن احتضانها لهذا التنظيم سواء في استمرار التعاون معه او في حال انكسار العلاقة.
في كل النقاشات والإيحاءات التركية تغيب سوريا عن الكلام في إطار تغييرات السياسات الخارجية التركية. وهذا ما يطرح بعين الشك مصداقية هذه التغييرات وجديتها. وهنا مثال على ذلك: على قاعدة «خذوا أسرارهم من صغارهم»، يكتب ابراهيم قره غول، رئيس تحرير صحيفة «يني شفق» الموالية لأردوغان، قائلاً ومعترفاً بأن هدف التطبيع بين تركيا وإسرائيل هو إيران بالذات. يوم الأربعاء الماضي، كتب قره غول: «إن التقارب التركي ـ الإسرائيلي يفسد مخطط اللعبة الإيرانية. لذلك إيران تبدي قلقها الشديد من هذا الاتفاق. وسيكون حزامها الاستراتيجي الواصل الى البحر المتوسط تحت الخطر». بل يضع غول التقارب التركي مع روسيا في إطار إفشال المخطط الإيراني لتطويق تركيا عبر روسيا أيضاً! كأن إيران هي التي أسقطت الطائرة الروسية، وكأن داود اوغلو ليس هو من قال إنه هو الذي أعطى بنفسه الأمر بإسقاط الطائرة.
ليس من كلام أوضح من هذا الكلام على النهاية الحزينة والبائسة لإسلام حزب «العدالة والتنمية» بأن يستبدل الصديق والشريك الإيراني المسلم بالعدو الإسرائيلي. هذا الإسلام الذي عبّد الطريق إلى طهران سنوات وسنوات من جانب ممثليه، من عبد الله غول إلى احمد داود أوغلو إلى رجب طيب أردوغان، لا يجد في نهاية العمر الأرذل سوى الكيان الغاصب للحق الفلسطيني ملاذاً و «عمقاً استراتيجياً» له بدلاً من الأعماق الاستراتيجية الطبيعية والبديهية.
إن خروج تركيا من عزلتها الإقليمية والدولية ومن التهديدات التي تواجهها، لا يكون بطلب العون من الكيان الإسرائيلي، وبقول أردوغان قبل ستة أشهر إن تركيا بحاجة لإسرائيل، بل بتصحيح سياساتها السابقة مع محيطها العربي والإسلامي من سوريا الى العراق، ومن مصر الى إيران، ومن تونس إلى اليمن. كذلك بتطبيع العلاقات مع أكرادها في الداخل، والخروج من فوبيا العداء لأكراد سوريا. هذا هو العمق الاستراتيجي الحقيقي لتركيا. لكن من مجمل السلوك التركي يتبين أن النيات تقع بعيداً في عمق أعماق العقل الباطني لمشروع الإسلام التركي بقيادة أردوغان. وهذه هي الخسارة الكبرى لهذا الإسلام والضربة الكبرى التي وجّهها منظّرو حزب «العدالة والتنمية» الحاليون والسابقون إلى هذا الإسلام الذي لم يكن سوى الوجه الآخر لإسلام «داعش».
تركيا تعود إلى إسرائيل. تركيا تعود إلى حضنها الدافئ.. مبروك.
محمد نورالدين
السفير