البلطجة الأميركية خطر على الأمن في البحر الأحمر والعالم
تتفوّق الوقاحة الأميركية على نفسها في منطقتنا من أجل التحكّم بثلاثة أمور أساسية، ويعد الباقي ثانويات متفرعة. الأول هو الغاز، خاصة في هذه المرحلة التاريخية. والثاني هو النفط. والثالث الممرات البحرية، عصب الحركة التجارية. لذلك كان السعي الأميركي لتمكين الكيان الصهيوني من الممرات البحرية وخطوط التجارة التي تمر عبر منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، أي بلادنا العربية، وهو واحد من أهم أهداف إنشاء هذا الكيان.
نهب ثروات الشعوب من ذهب وألماس ومعادن وأحجار كريمة وأراض خصبة ومياه، ليس معفيًا من “الجمارك” الأميركية والشركات العالمية الكبرى، ولكن أي نهب وسرقة للشعوب تحتاج إلى الطاقة والطرق التجارية لنقلها بأمان ويسر. وهو ما تحاول الولايات المتحدة مواجهته نتيجة تهديدات اليمن في البحر الأحمر لسفن الكيان الصهيوني متذرعة بمبدأ حرية حركة الملاحة وأمنها. لذلك كان من المتوقع أن تتجه الولايات المتحدة نحو الدول الصديقة والدول اللدودة، مثل الصين، من أجل تأمين تغطية هذا التحالف وعدم الاعتراض عليه أو التعرض له خلال عمله في البحار. وهذا مطلب كبير! وهو يعني بكل بساطة محاولة أميركية من أجل السيطرة على خطوط التجارة البحرية العالمية عبر استغفال الجميع من خلال جمع “التوقيعات” لتغطية هذا التحالف. ومن أجل تبرير ذلك، ابتدأت سلسلة من العمليات المفبركة، مثل الهجوم على سفينة بمسيّرة قبالة سواحل الهند، أو ما صرحت بههيئة عمليات التجارة البحرية البريطانية عنه في 18/ 12 أن خمسة قوارب صغيرة على متنها مسلحون اقتربت واستهدفت سفينة بريطانية شمال غرب جيبوتي تصدت لها قوات التحالف، من دون ذكر أي معلومات عن السفينة وهويتها ووجهتها.
من المفيد أن نعيد توالي الأحداث منذ أن أعلن قائد أنصار الله في اليمن سماحة السيد عبدالملك الحوثي، في 14 تشرين الثاني وخلال مناسبة عيد الشهيد اليمني، عن التضامن مع غزة ضد الحصار الذي فرضه الصهاينة والأميركيون وعن منع السفن الإسرائيلية من المرور عبر البحر الأحمر حتى يُرفع الحصار عن غزة. بعد ذلك بيومين، كان هناك لقاء بين الرئيس الأميركي جو بايدن والصيني شي جين بينغ، لم يأتِ اللقاء اعتباطيًا؛ فقد سبقه لقاء تحضيري مهم، مرّ خبره مرور الكرام بشكل ما، لما كان لطوفان الأقصى من غلبة على المشهد العام، ألا وهو لقاء رئيس وزراء استراليا أنتوني ألبانيزي بعد قطيعة مع الصين، ابتدأت في العام 2016، وأطلق ألبانيزي على الصين تسمية “شركاء التجارة”. كان اللقاء محاولةً لإغواء للصين بالانفتاح الغربي عليها، وكان تحضيريًا لزيارة بايدن وجسّ النبض الصيني. تزامن التحضير للقاء العملاقين الصيني والأميركي مع سلسلة التحذيرات التي أطلقها السيد الحوثي ممهورة بالعملية الأولى من نوعها بحجز السفينة الصهيونية “غالاكسي ليدر”. ولربما كان هذا أحد أهم أسباب فشل اللقاء، بحسب التصريحات الأميركية التي ابتدأها بايدن بالتذكير بأن بينغ دكتاتور: بسبب عدم توافق الصين معه في موضوع مضيق تايوان، وإعادة ارسال السفن التجارية إلى الكيان قبل وقف الحرب على غزة.
تطور نتائج طوفان الأقصى لم تكن بالحسبان، بل جاءت الحسابات مخالفة تمامًا للتقديرات الأميركية التي توقعت استسلام المقاومين في فلسطين، تحت وقع الضربات والمجازر التي يرتكبها الكيان. وما لم يتوقع أن يمتد هذا التأثير ليطال عمليات للمقاومة في العراق ولبنان وانخراط اليمن المباشر في المعركة. ومع ذلك، ومع محاولة الضبط التي يتذرع الأميركيون بأنهم يدفعون باتجاهها، يستغلون ما حدث طوفان الأقصى من أجل الدفع نحو نظامهم العالمي الجديد، والذي ستكون “إسرائيل” الجديدة جزءًا منه، أي “إسرائيل” اليهودية. لأن ما يأمله الأميركيون هو ما يأمله الصهاينة. كما أن الأميركيين وحلفاءهم الأصليين البريطانيين تعودوا إيجاد كبش الفداء المناسب لكل مرحلة من مراحل استعمارهم حول العالم. واليوم يستخدم اليهود في فلسطين ككبش محرقة في معركة صناعة ما يسمى “إسرائيل: الدولة اليهودية”، ويبدو أن الأميركيين قد وجدوا ضالتهم في الحوادث الأخيرة من أجل إطالة أمد الحرب حتى تأتي أمريكا أكلها.
فما الذي يريد الأميركيون تحقيقه؟ استغلال تداعيات الأحداث في البحر الأحمر، والذي يهدد الكيان اليهودي بالتأكيد، وبناء تحالف عالمي بحري يحقق من خلاله الأميركيون السيطرة على خطوط التجارة البحرية والعالمية بقيادتهم. وأراد الأميركيون إغراء الصين لتكون جزءًا لا يتجزء منه عبر استيعابها بدلًا من المواجهة المرحلية معها، وهذا ما سيمنح بايدن انتصارًا يستغله في انتخابات 2024. ومن ثم، يريد الأميركيون تكريس معاهدات “آبراهام” للتطبيع وخاصة مع السعودية، والتي عطّل طوفان الأقصى الوصول إليها علنيًا.
من أهم ما تريده الولايات المتحدة في هذه المرحلة، وهنا عود على بدء، منع النفط والغاز الروسيين من الوصول إلى أي مكان في العالم؛ لأن بايدن بحاجة ماسة إلى تحقيق انتصار في أوكرانيا وهزيمة الروس فيها إذا ما أراد أن يربح الانتخابات. لأن روسيا تمتلك قوة عسكرية لا يعرف العالم حتى اليوم نوعها وحجمها، وهي تعدّ المنافس الحقيقي لأمريكا والغرب. وقد ابتدأ الجيش الروسي بتحرير مدن جديدة في اوكرانيا والعالم مشغول بغزة، وأسهم الروسي بالتعاون مع حلفائه في إحباط مخطط تهجير الفلسطينيين، وأسهم مع الصين بإخلاء أفريقيا تقريبًا من معظم قوى الغرب فيها، واليوم لم يبقَ سوى هزيمة النظام العالمي الجديد الذي تحدث عنه رؤوساء أمريكا، ابتداءً من جورج بوش (الأب) في 1990 وحتى اليوم.
يعلم الجميع، وبالتأكيد منهم الصينيون، أن إشارة من يد بايدن كانت تكفي لو أراد وقف الحرب على غزة ومن الساعات الأولى، خاصة وأنه على خلاف عميق مع نتنياهو. ولكن بايدن رأى في عملية طوفان الأقصى الفرصة للتخلص من المقاومة الفلسطينية، ولم يتعلم الدرس من حرب تموز 2006 في لبنان. ومعضلة بايدن، كما أي رئيس أميركي، أنه لا يستطيع أن يقبل بنهاية الكيان المارق الذي دفعت فيه أمريكا حتى اليوم مليارات مليارات الدولارات حتى وصل إلى ما هو عليه، كما أنه لا يستطيع أن يفقد قبضته على العالم بسبب ذلك. والصين لن تكون الدولة التي ستمكّن الولايات المتحدة من لف حبل مشنقتها على رقبتها، خاصة بعد التجربة غير المسبوقة مع دونالد ترامب من تمزيق للاتفاقيات الدولية واتفاقية التجارة الحرة مع الصين.
ومع ذلك؛ فإنّ المطلوب من التحالف البحري الغربي إعادة تأمين وصول البضائع إلى الكيان وضمان استمراريته، والمضي في الخطط في إنشاء خط الهند- فلسطين، ممر بايدن، وفتح قناة بن غوريون، ومبدئيًا إعادة ميناء حيفا وأم الرشراش، إيلات، للعمل بعد أن توقف اليوم، بحسب موقع غلوبس، وذلك بسبب ضربات اليمن للسفن المتجهة إلى الكيان. وقد منعت سفن الكيان أو المتجهة إليه من الإبحار في الخليج إضافة إلى البحر الأحمر، فيما تستمر السفن الروسية بنقل غازها ونفطها عبر قناة السويس متجهة إلى الصين وشرق آسيا، ويتسبب الحصار على الغاز الروسي بارتفاع أسعار الطاقة والتدفئة في أوروبا إلى حد بات على الكثيرين الاقتصاد في استخدامه للتدفئة. هذا مع العلم أن خمس استهلاك العالم من النفط يمر عبر البحر الأحمر.
إن التحالف البحري الغربي لا يعد خطرًا على اليمن التي تهدد الولايات المتحدة والغرب بقصف مواقع عسكرية فيه، بل سيطال دول المنطقة كلها. كما أن الولايات المتحدة اتهمت مباشرة إيران بقيادة هذه الهجمات على السفن المتوجهة إلى الكيان في تصريح مباشر لأوستن لويد وزير الحرب الأميركي. إن الولايات المتحدة من خلال هذا التحالف ستدفع نحو زعزعة أمن المنطقة وأمن الملاحة فيها. ولهذا فقد حذر الناطق الرسمي باسم أنصار الله محمد عبد السلام منذ أيام أنه: “على الدول المشاطئة للبحر الأحمر أن تدرك حقيقة المخاطر التي تهدد أمنها القومي، وأن البحر الأحمر سيكون ساحة مشتعلة إذا استمرت أمريكا وحلفاؤها على النحو الذي هم عليه من البلطجة”. كما حذر عبد السلام من عسكرة البحر الأحمر.
وفي الحقيقة، هي عسكرة قائمة منذ سنوات، منذ أن احتل الكيان جزر صنافير وتيران في العام 1967، ومن ثم جزر سقطرى ومنون في اليمن وبنى قاعدة في أريتريا. ولكن هذه العسكرة لا تعدّ تهديدًا للأمن القومي الأميركي ودول التحالف الغربي، وإنما تعدّ خطوة على طريق السيطرة على خطوط التجارة العالمية في البحر الأحمر وإخضاع المنطقة والعالم لإرادتها، وقرار اليمن بإغلاق البحر الحمر والبحر العربي جاء ليفقدها قبضتها عليه.
عبير بسّام