الباحث د. حمود عبدالله الأهنومي يكتب عن :التربية في فكر الشهيد القائد ..(1 -3)…
Share
التربية في فكر الشهيد القائد 1
تتصف مسيرة الشهيد القائد السيد حسين بدر الدين الحوثي- رحمه الله- بأنها حركة إحيائية غيّرت الواقع، وغيرت الفرد، والمجموع، وقدّمت نموذجاً مُلْهِما في التغيُّر والتغيير، واستطاعت تكوينَ مجتمَعٍ وأمةٍ موحَّدة باتجاهٍ واحد، وهذا يعودُ لعدَدٍ من العوامل، ولعلَّ أهمَّها عاملُ التربية والتعليم وسببيتُهما، وإذا كان عددُ مدرسي مدارسِ التربية والتعليم وصل إلى مئات الآلاف، وبلغ عدد أساتذة الجامعات اليمنية ما يقارب عشرة آلاف أستاذ، فأين هي مخرجات التربية والتعليم الأساسي والجامعي في مضمار حركة التغيُّر والتغيير؟ بينما استطاع شخصٌ واحدٌ مثل الشهيد القائد أن يُحْدِثَ كلَّ هذا التغييرِ في مدة زمنية قصيرة جدا؟ وهذا ما دفع إلى طرحِ عددٍ من الأسئلة؛ منها: ما مفهوم التربية عند الشهيد القائد؟ وما التربية الفضلى؟ وما مصادرُها؟ وكيف تمَّ تشخيص واقِعِها في اليمن والعالَم الإسلامي؟ وأين دور اللاعبين الدوليين والإقليميين والمحليين فيها؟ وأين تقع التربية الوطنية منها؟ وكيف يجِبُ أن نؤسِّسَ لتربيةٍ فاعلةٍ ومؤثِّرة تصِلُ إلى الهدف وتحقِّقه؟ وأين الثقافة القرآنية من كلِّ هذا؟ ذلك هو مشكل هذا البحث الذي يحاول الإجابة عليه في هذه السلسلة من الحلقات التي سبق وأن نُشِرَت في كتيب صغير. ومنهجي في البحث هو المنهج الوصفي، المتمثلُ في جَمْعِ عددٍ من المقولات التي وردت في بعض ملازم السيد، ووصفِها، وتصنيفِها، وتحليلِها، واستخلاصِ النتائج منها، وعرضِها على واقع الحركة. مُسْنِدا كلَّ معلومة إلى المحاضرة التي أُخِذَتْ المعلومةُ منها. مع شعوري بالحاجة إلى استخدام منهج المقارنة والتحليل لما طرحه السيد من أفكار في هذا الموضوع. أهمية هذا البحث في أنه يطرق أهمّ المجالات والعوامل الحيوية في حياة الشعوب ونهضتها، وتطوُّرِها الحضاري، إنه التربية والتعليم، ويحاول شرْحَ مفهومِ التربية والتعليم لدى مؤسِّسِ حركة أنصارِ الله، وربما أعطى تفسيراً لهذا القبول الشعبي الواسع الذي حقّقته الحركة في أوساط المجتمع اليمني، وكيف انتقلت من مكانٍ صغير، هو عزلة مرَّان من مديرية حيدان محافظة صعدة، بدأ فيها الشهيدُ القائدُ مربياً، وانتهى فيها أيضاً شهيداً، إلى أن أصبحت تغطِّي مساحات واسعة من اليمن، وأصبحت اليوم حديثَ الإقليم والعالم، وتؤثر في مجريات التاريخ العالمي المعاصر. كما تندُرُ المقالات والدراسات الجادَّة حول مشروع هذه الحركة، وكثيرٌ مما كُتِبَ حوله كان ينطلق من الحِقد والكره الذي لا يصل إلى الحقيقة البتة. وتظهر أهميته أيضاً في أنه يشير إلى المستقبل الذي ستذهب إليه الحركة، فأيُّ حركةٍ لها موقفٌ إيجابيٌّ من التربية والتعليم فإنه بلا شك سينعكِس إيجابا على مستقبلِها، ويشير إلى أي نوع من أنواع المستقبل، والعكس هو الصحيح أيضا. الجدير بالذكر أن أصل هذا البحث هو ورقة عمل شارك بها الباحث في ندوة (في رحاب الشهيد القائد) في العام الماضي 1437هـ، ثم تم مراجعته والإضافة فيه بالشكل الذي هو عليه الآن. مفهوم التربية من خلال الموارد التي وردت فيها التربية في محاضرات السيد حسين يمكن تعريف التربية لديه بأنها: «تنشِئةٌ نفسية وأخلاقية تساعِد الفردَ والمجتمعَ للوصول بالأمة إلى كمال الإيمان»، بحيث ينعكس وجداناً فياضاً بالشعورِ الإيماني، وبأهمية التحرُّك، وينعكس أفعالاً مبادِرة إلى التحرُّك الواسع في جميع المجالات المهمة في واقع الأمة. وتتخذ التربية في فكره شكلا فلسفياً متجذِّراً، فالإنسان الذي هو هدفُ هذه العملية، هو محطُّ عناية الله أولاً؛ إذ هو الربُّ لجميع خلقه، والمربِّي لهم، وقد تناول الشهيدُ القائدُ هذه القضيةَ من منطَلَقِ حاجةِ الأمة التي شعَرَ بها في هذا المجال إلى الثقافة الدينية الإسلامية؛ بعد أن شخَّص افتقارَها إلى قضيةٍ أساسيةٍ في التربية وهي قضية الارتباط بالقرآن الكريم. وضع الشهيد القائد جميع المعارف ولا سيما ما سماه (الثقافة القرآنية) في سياق الحركة الجادَّة والتحرُّك الفاعِل والمثمِر، وفي الاتجاه والدفْعِ الحثيث بالأمة إلى الكينونة المطلوبة، والقوة الكافية، على مستوى الفرد والمجتمع. لقد أراد للأمة أن تتربّى التربية القرآنية، والتربية الفكرية والجهادية، تربية العزة والكرامة، والشجاعة والتضحية، وشدة التعلق بالله والخوف منه، والتي هي على حدِّ وصفه: «التربية التي أخرجت ذلك الرجل الذي كان يقول: (والله لابنُ أبي طالب آنَسُ بالموت من الطفل بثدي أمه)، لكنه كان وهو يتذكر اليومَ الآخِرِ، كان يتخشّب جسمُه خوفاً من الله، وخوفاً من اليوم الآخر». الشهيد القائد تربوياً تلقى الشهيد القائد علومه الدينية والشرعية على يد والده السيد العلامة فقيه القرآن بدر الدين الحوثي، وتخرّج السيد حسين بدر الدين الحوثي من كلية الآداب، في جامعة صنعاء، قسم علوم القرآن، ودرّس في عام 1987م في مدرسة خميس مران، كما أنه درّس في مراكز التعليم الديني وأشرف عليها وأدارها، وكانت التربية جزءا مُهِمًّا وأصيلا في مسارِ حياته وعطائه. وفي محاضرة (الثقافة القرآنية) عرّف نفسَه بأنه من المعلمين، واعتبرها فرصة أن يكون الإنسان معلّماً أو متعلّماً، بل ونعمة عظيمة، حيث يقول: «هي نعمة عظيمة علينا جميعاً، علينا كمعلمين وعليكم كطلاب، أن يُتاح لنا جميعاً فرصة أن نُعَلِّم ونتعلَّم؛ ففي الحديث الشريف عن رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: (من سلك طريقاً يطلب فيه علماً سلك الله به طريقاً إلى الجنة)». «ولمعرفة السيد حسين بأهمية التعليم والتثقيف في نهضة الأمة فقد دفع بالمجتمع إلى العلم والمعرفة، وتحرَّك وتابع من أجل الحصول على مدارسَ لكافة مراحل التعليم للبنين والبنات، وبنى عدداً من المدارس الدينية، وشجَّع التعليم بشكلٍ كبير، وحثَّ الآباءَ على الدفْعِ بأبنائهم ذكوراً وإناثاً إلى التعليم، وكان يتابع ما يجري في المدارس وخصوصاً في مرَّان، ويهتم ببناءِ الفردِ تربوياً وعلمياً … وكان يحارب ظاهرة الغش المنتشرة في الكثير من المدارس في اليمن، ويعتبرها خطراً كبيراً على التعليم، فرفع من مستوى التعليم بشكلٍ كبير، وبرز على يديه طلابٌ كانوا على مستوىً عالٍ من التأهيل». وأولى السيد حسين- رضوان الله عليه «أهمية كبيرة لتأهيل المرأة في مجتمع مران، حتى تقوم بدورها المنوط بها، حيث عمل على توعية المجتمع بتكريمها وعدم ظلمها، وإعطائها ما فرضه الله لها من المواريث والمهور وغيرها، وتعليمها وتهيئة الساحة لتقوم بدورها على أكمل وجه، ولحرصه على تعليم المرأة فقد عمل وتابع في سبيل توفير عددٍ من المدارس الحكومية للبنات في جبل مران، وتضمَّنت محاضراتُه الحديثَ الكثيرَ عن دور المرأة في بناء الحياة على أساسِ هدى الله سبحانه وتعالى». وفي سبيل نشر التربية الصحية، اهتم بإنشاء مراكز صحية، و”بعث بمجاميع من البنين والبنات للدورات في المجال الصحي في صنعاء وصعدة”. وعندما أطلق مشروعه النهضوي من خلال الثقافة القرآنية تحدَّث في محاضراته عن المنهج، والأساليب، والوسائل، والطرق، والتقويم، وعن مفرداتٍ كثيرة، يتداولُها عادةً علماءُ التربية، ولكنه حين تناول هذه القضية في محاضراته لم يتناولْها من منطلق أنه خبيرٌ تربوي، أو منظِّرٌ فيلسوف، بل تناولها من حيث أهمية تعزيز التربية وموادِّها ومناهجِها وأساليبِها وطرقِها بالقرآن الكريم، وأساليبِه، ومنهجيته، ووسائله، والانفعالِ الوجدانيِ به، وتحويلِ مفاهيمه وتعاليمه إلى واقعٍ وسلوكٍ ومواقف، وجعْلِ هذا ضمن توجيهاته التربوية الفاعلة والمؤثِّرة للأمة لكي تغادر مسارَ الجمود والغفلة واللامسؤولية إلى المسار الواعي والمتفاعل والمتحرك.
التربية في فكر الشهيد القائد 2
حول مفهوم التربية واشتقاقها ومواردها تنطلق الرؤية التربوية عند الشهيد القائد – سلام الله عليه – كاملة شاملة وعميقة وجذابة بعمق وشمول وعظمة مصدرها الأساس وهو القرآن الكريم؛ حيث الله هو المربِّي في الأساس لجميع خلقه، وهذا ما سيتضح من خلال ما سيأتي من شرح لهذا الموضوع. الرب والربانيون والتربية الربُّ في الأصل: مصدرٌ، وهو التربية، وهي إنشاء الشيء حالا فحالا إلى حد التمام، ويقال ربّه، ورباه وربَّبَه .. ، فالربُّ مصدرٌ استُعِير للفاعل، ولا يقال الرب مطلقا إلا لله تعالى المتكفِّل بمصلحة الموجودات بحسب ما ورد عند الأصفهاني في مفردات القرآن الكريم. وصف القرآنُ الكريمُ العلماءَ المعلِّمين بأنهم ربانيون، حيث قال: ﴿وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ﴾ (آل عمران:79). حيث أخبر أنه لا يمكن لرسولٍ أن يدعو الناس إلا لأن يكونوا ربانيين، بسبب أنهم يعلّمون كتاب الله عز وجل، وبسبب أنهم يدرسون، يدرسون أيّ علمٍ نافعٍ، يدرسون كلَّ ما مِن شأنه أن يُدْرَس. والعلماءُ الربانيون هم أولئك الذين خلُصَتْ حياتُهم لله، في سبيل إصلاح وتربية خليقته، إنهم ربانيون، منسوبون إلى الرب، وهي الصفة الإلهية المشتقة من التربية، همهم تربية هذا المجتمع على هدى الله، وتنشئته التنشئة الفاضلة بحسب ما يريده عز وجل. وهذا أمير المؤمنين علي عليه السلام يبيِّن في نهج البلاغة أن من حق العامة على العلماء الحكام أن يعلّموهم حتى لا يجهلوا، وأن يؤدّبوهم كيما يتعلموا. حول هذا المفهوم تتصل الرؤية التربوية للشهيد القائد بالله عز وجل؛ حيث هو المربِّي في الأساس لجميع خلقه، وحتى أولئك الأعلام الذين يولِّيهم الله تربية الأمة، فإنهم يربونها على النحو الذي أمر اللهُ في دينه القويم، وقد جاءت تشريعاته سبحانه وتعالى للناس لكي تقوِّمَ سلوكَهم، وتصحِّح مسارَهم على النحو الذي فُطِروا عليه، وتصِل بهم إلى الغاية المنشودةِ من خلقِهم، ومن هذا جاء اسمُ الربِّ تبارك وتعالى؛ فهو يقول في ملزمة الاستقامة: «ربنا الله وحده لا شريك له، لا نعبد سواه، ..؛ لأن الربوبية هي من التربية، الله هو الذي ربَّانا، ويُرَبِّينا باستمرار، هو الذي يقوم بتدبير شؤونا، هو القيُّوم على كلِّ أمورنا». ويبيِّن السيد الشهيد معنى (ربنا الله) بشكل أكثر تفصيلا فيذكر أيضا في ملزمة الاستقامة أن ذلك يعني: «أنه هو وحده الذي يملك حقَّ تدبيرِ شؤوننا في هذه الحياة، هو وحده الذي يملك حق الأمر والنهي فينا في هذه الحياة الدنيا ولا أحد سواه، باعتبارنا عبيدا له، هو الذي خلقنا، هو الذي رزقنا، هو الذي مهَّد لنا هذه الأرض التي نعيش عليها، نحن مملوكون له بكل ما تعنيه الكلمة، لا أحد سواه يملِكُ أن يشرِّعَ لنا، لا أحد سواه يملك أن يتحكَّم كما يريد في شؤوننا، يأمر وينهى كما يريد في مختلف مجالات حياتنا». وحين نتأمل ما أورده السيد الشهيد هنا نجده تفصيلا لما أجمله الإمام القاسم بن إبراهيم عليه السلام، وهو يفسر قوله تعالى: ﴿رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾؛ إذ قال: «وتأويل ﴿رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ فهو السيد المليك الذي ليس معه فيما ملَك مالِكٌ ولا شريكٌ» كما ذكره الإمام الشرفي في تفسير المصابيح. وفي دروس (في ظلال دعاء مكارم الأخلاق)، عند دعاء الإمام زين العابدين عليه السلام: (وبلِّغ بإيماني أكمل الإيمان، واجعل يقيني أفضل اليقين، وانتهِ بنيتي إلى أحسن النيات، وبعملي إلى أحسن الأعمال) – توقَّف الشهيد القائد طويلا في شرحها وتفعيلها، واعتبر ذلك من أهم مصاديق ربوبية الله تعالى للمؤمنين، وما يجب أن يكونوا عليه من الازدياد في الإيمان، واليقين، وحسن النية، والعمل. واعتبر زيادة الإيمان من أهم مصاديق هذه التربية الإلهية بقوله: «إنه لا بد أن يبتليني بتكاليفَ متنوِّعة، ما بين شاقٍّ على نفسي، أو شاقٍّ على جسمي، وما بين سهل، ما بين صعب علي باعتباره مخالفاً لهواي، أو لمصالحي الشخصية، أو لأي اعتبار آخر من الاعتبارات الدنيوية، وبين ما هو بعيد عن هذا الاعتبار» (ملزمة الاستقامة). وبصدد وجوب استقامة أفعال المكلفين مع أقوالهم، وتفاعُلِ المربوبين مع أساليب التربية الإلهية، نحَى باللائمة على أولئك الذين يناقِضُ قولُهم سلوكَهم، فيقولون: الله ربنا، «ولكن يدينون بالولاء لتشريعاتٍ بعيدة عن الله، لأنظمةٍ بعيدة عن الله، هذا إقرارٌ يناقضُه العمل». ووصف ولاية الله لعباده التي تمتد إلى ولاية الأنبياء والرسل على أممهم، ثم إلى أعلام الهدى على شعوبهم، بأنها «ولاية رحمة، ولاية رعاية، ولاية تربية، وليست مجرد سلطة قاسية، أوامر ونواهي فقط، ولاية رحمة بكل ما تعنيه الكلمة»( الدرس الثالث والعشرون من دروس رمضان). وحين علَّل بعض التشريعات والتكاليف وصفها بأنها أحكامٌ تربوية، وتشريعات تربوية، تعالج النفس البشرية وتهذِّب طِباعَها، وتقوِّم سلوكها، وتخلق فيها قوة الإرادة. ويلتقي في هذا مع ما يقوله السيد العلامة محمد حسين فضل الله رحمه الله في تفسيره ﴿رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾، الذي عنْوَن فقرته بقوله: (الله هو المربِّي)، ثم شرح امتزاج معنى الربوبية بالألوهية قائلا: «فهو الإله الذي يخلق الخلق، ولكن لا ليتركهم في الفراغ، بل ليرعاهم فيربّي لهم إحساسَهم من خلال الأجهزة التي أودعها في داخل كيانهم، ومن خلال الأشياء التي خلقها لهم من الطعام والشراب وغير ذلك، مما يتوقف عليه نموّ أجسادهم، ومما يربّي لهم عقولهم من خلال العناصر الدقيقة الخفية التي أقام عليها كيانَهم الفكري، ومن خلال الوسائل الحسية التي حرَّكها لتموِّن جهازَ العقل في وجودهم، ليبْدِعَ ما شاء اللّه له من النتاج الفكري الذي يرفع مستوى الحياة في أكثر من مجال، ويربّي لهم حياتَهم الروحية والعملية بالرسالات التي تمثّل أعلى درجات السموّ والخير والإبداع. ثُمَّ كانت تربيته للوجود كلّه في مخلوقاته الحيّة والنامية والجامدة، في ما أبدعه من النظام الكوني الذي يضع لكلّ موجودٍ نظاماً بديعاً من الداخل والخارج، ويربط فيه بين المخلوقات في عملية التكامل الذي يتمثّل في الترابط الوجودي المتحرّك أو الساكن في وجود الأشياء». الإنسان هو الهدف تجعل مسيرة الشهيد القائد الإنسانَ محورا لعملية البناء والتربية، شأنها في ذلك شأن كثير من المشاريع النهضوية الفاعلة والناجحة، وكثيرا ما ركز الشهيد القائد أن ميدان حركة المؤمنين وجهادهم هو الناس، وقلوبهم، وقد أوردت (مذكرة أسس وموجهات العمل)، تحت عنوان (موجهات متعلقة بعملية البناء) عددا من الموجهات الهامة، وهي: – إدراك أن محور البناء الأساسي هو الإنسان: مسألة مهمة جدا. – العناية القصوى بالتأهيل والتربية الإيمانية، وعملية البناء تشمل التأهيل كركن أساسي. – أن يكون هناك اهتمام بالتأهيل الثقافي والتربوي والعلمي والعملي. – بناء الفرد وتقويم سلوكه ومعالجة الظواهر السلبية. – الاهتمام ببناء المهارات والقدرات العملية والاهتمام بتطوير الأداء العملي وآليات العمل. – الاستفادة من الأحداث والصراع في إيجاد البدائل وفي الإبداع والابتكار والتطوير والتطوُّر والإنتاج والبناء. ويرد فيها عنوان هام جداً هو: (أساس بناء الحياة يبدأ ببناء الإنسان)، وعنوان آخر هو: (الاهتمام ببناء الفرد تربية وتثقيفا وتقويم سلوك)، وتورد نصاً للشهيد القائد يتضمن تصحيح الوعي في ذهنية المجتمع، ويجعله يفهم الأمور فهما صحيحا إذا تهيأ المجتمع لأن يتحرك متوحدا، وتهيأت نفوس أهله إلى أن تكون متآلفة؛ «لأنه حتى صلاح نفوسنا وزكاء نفوسنا، وأن نكون واعين وفاهمين، ولدينا قدرة على أن نفهم الأمور كما هي عليه هو مرتبط بالدين أيضا، مرتبط بالدين؛ لأن من مهام الدين هو أن يزكِّي النفوس، ويجعلها نفوسا زاكية، وأرواحا سامية، طاهرة، ويخلق معرفة، ووعيا، وفهما بالأمور كلها. التربية ليست مقيدة بعمر معين ومن الأهمية بمكان التنبيه أن الشهيد القائد قصد بالتربية تربية الإنسان بغض النظر عن عمره أو مكانه أو وظيفته، فلا مكان محدد للتربية لديه، ولا مرحلة عمرية معينة، وليس الفرد فقط هو من يجب أن تُوَجَّه إليه العملية التربوية، بل كل الأمة هي بحاجة أيضا إلى التربية الدائمة، في كل وقت، وفي كل زمان، صغارا وكبارا، وهو بهذا يعطي بُعْدا واسعا وعميقا للتربية، وهو أمرٌ مفهوم من شخصية قيادية تطمَح لتغيير حال المجتمع وتحاوِلُ أن تحيي فيه قيم النهضة والحرية، وتربي فيه العزة والكرامة. لهذا لم يتحدَّثِ الشهيد القائد بالتفصيل عن التربية للناشئة، وعن الطرق والوسائل التي تناسِبهم، ولا عن طرق التدريس، ولم يهمه تصنيف (بلوم) (أحد علماء ومنظري التربية)، للأهداف المعرفية، ولم يهمه أيضا الحديث عن التقويم وطرقه، ولا مهارات التدريس الفاعِلة، كالتعزيز والتقويم وإدارة الصف، كما لم يبحث نظريات فلاسفة التربية الآخرين، ولا آخر ما توصلوا إليه في عملية تحليل المناهج وصياغتها. بل ركّز همَّه على الموضوع الذي شغل باله كثيرا، وهو كيف يجب أن نحرِّك جمودَ هذه الأمة، ونحيي مُواتَها؟ وأين الحلقة المفقودة بين أقوالها وأفعالها، بين نظرياتها وتطبيقاتها؟ أين الخلل في واقع هذه الأمة؟ ولماذا صارت ضعيفة مهانة؟ وكيف يتم الأخذ بيدها؟ ومن أين يجب الإصلاح والاستنهاض؟ وأين واقعها مما افترضه القرآن الكريم عليها؟ لقد كان دائمَ السؤال: لماذا نجح رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – في إدخال أهل الجزيرة العربية إلى الإسلام في غضون عشر سنوات، بينما نحن (وقصَدَ الناشطين في العمل الإسلامي الزيدي بالتحديد) لم نحقِّق شيئا خلال 12 سنة؟ ولماذا فشل الإخوان المسلمون أيضا في تحقيق أهدافهم ولهم خمسون سنة في العمل التربوي والدعوي؟ وهو سؤال طالما طرحه في أكثر من محاضرة.
التربية في فكر الشهيد القائد3
عدّد الشهيد القائد أنواعاً من التربية، وذكر منها أهمَّها:
التربية الإيمانية والجهادية
أكد الشهيد القائد على أهمية التربية الإيمانية والترقي فيها إلى كمال الإيمان، وأفضل اليقين، وأنه لا بد للأمة أن تتربَّى تربية إيمانية، من خلال الاهتداء بهدي الله، القرآن الكريم.
وعند شرحه لدعاء زين العابدين (وبلِّغ بإيماني أكمل الإيمان) ذكر أن «من كمال الإيمان: الوعي والبصيرة»، وأنَّ الطريقَ إلى كمال الإيمان يمضي من خلال الهداية من الله سبحانه وتعالى، بالعودة إلى كتاب الله الكريم الذي يَهْدِي إلى المقامات التي يحصل من خلالها المؤمن على كمال الإيمان، أو يهدي إلى من يمكن أن يحصل المؤمن بواسطتهم على كمال الإيمان.
وضرب مثلاً على ذلك بتربية أهل البيت لهذه الأمة؛ إذ يقول: «نجد أنه على يد أهل البيت (عليهم السلام) كالإمام علي (صلوات الله عليه) ومن بعده من أئمة أهل البيت هم من عملوا على تربية الأمة تلك التربية التي ترقى بها في درجات كمال الإيمان».
إن من أهم مظاهر التربية الإيمانية: التربية الجهادية، حيث أكَّد الشهيد القائد أن التربية الجهادية حالة تربوية ثابتة، وأنها يجب أن تكون من أول يوم، حيث أن «الجهاد أساس من أساسيات الإسلام كحالة ثابتة، وحالة تربوية من البداية، وليس فقط حالة طارئة استثنائية» عند ظهور العدو، كما يروِّج له البعض؛ حيث يقولون: «إن الأساس هو الدعوة، دعوة، دعوة»، فإذا ظهر عدو دعا الناس إلى الجهاد، وهذا خطأ كبير؛ لأن الجهاد حالة ثابتة في الإسلام، ولأنه ثبت أن هؤلاء الأعداء من اليهود والنصارى يصدون عن دين الله، وبالتالي فلا بد «من تربية جهادية، وحركة جهادية»، ولهذا لا مناص أن تكون التربية الجهادية من أول سَنَةٍ، «مسألة تربوية، ولهذا تجد الحديث عن الجهاد، والإنفاق داخل آيات القرآن بشكل واسع» (دروس سورة البقرة – الدرس الحادي عشر من دروس رمضان).
أبرز مظاهر التربية الإيمانية
أما أبرز مظاهر هذه التربية الإيمانية لدى الشهيد القائد فهو «الوقوف في وجه الكافرين بكل عزة, وبكل صمود, وبكل قوة, بل هذا شرط في تحقيق الإيمان، وفي ميدان المواجهة نفسها تصبح الهزيمة أمام الكافرين جريمة (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ)(الأنفال: من الآية16) هي كبيرة» (في ظلال دعاء مكارم الأخلاق – الدرس الثاني).
يضيف – في ظلال دعاء مكارم الأخلاق، الدرس الثاني – مبينا مظاهر هذه التربية وآثارها «فالتربية الإسلامية هي بالشكل الذي يجعل الأمة، يحمل الناس فيها نفوساً رفيعة، يشعرون بطمأنينة، يشعرون بتكريم، لا يخاف على نفسه، لا يخاف من مجرد كلمة تقال عليه»، وتكون هذه النفوس الرفيعة فيها هي الجديرة بأن «تواجه الأعداء الخارجيين، وترفض أيَّ طغيان يريد أن يتحكَّم عليها، ويفرض نفسه عليها» (دروس سورة البقرة – الدرس الحادي عشر من دروس رمضان).
غير أنه يشترط أن يقارن هذه التربية الجهادية تربية فكرية مبنية على عقيدة سوية، وإلا فإنها ستضرب هذه التربية الجهادية في الصميم، ولهذا كرَّر كثيرا أن تربية الوهابيين لأتباعهم على الجهاد والدين سيتبخر أمام أي تهديد، لأنهم يستندون إلى عقائد باطلة، مثل عقيدة الشفاعة لأهل الكبائر، ومنهم الفارون من الزحف، يقول: «هذه العقيدة سيلمس أولئك الذين رفعوها ودعوا إليها سيلمسون هم بأيديهم سوء آثارها بشكل هزيمة ممن يعبئونهم، ممن يحرِّكونهم، ممن يتحدَّثون معهم؛ لأنه ليس هناك ما يخيفك من جهنم، فهذه هي أيضا في أثرها التربوي مما يخالف منهجية القرآن التي تقوم على تربية الأمة تربية جهادية، فكيف يعمل على تربية الأمة تربية جهادية من خلال الآيات الكثيرة في القرآن الكريم، ثم يأتي هناك بعقيدة تضرب آثار هذه التربية!» (معرفة الله – وعده ووعيده – الدرس الثالث عشر).
ويؤكد تحقق آثار هذه التربية الجهادية بأنه إذا ما توجَّه المعلِّم إلى ذلك مع طلابه فسيجد نفوسهم «مهذَّبة مليئة بخوف الله, بالخشية من الله», و «أعمالهم وتعاملهم فيما بينهم حسنا»، ويضيف «أن التربية الجهادية هي من ستصنع الروح المهذبة، الروح الزاكية، الروح السامية، الروحَ التي تجعل صاحبها نورا في أي مكان كان، تجعل صاحبها عنصرا خيِّرا وفاعِلا في أي مجتمع كان».
وأضاف في نفس الملزمة (في ظلال دعاء مكارم الأخلاق – الدرس الثاني): «اتضح جليا أن الكثير من حكام المسلمين بما فيهم حكام هذا العصر لا يمكن بواسطتهم ومن خلالهم أن يقوموا بتربية الأمة تربية إيمانية تترقى بهم في درجات كمال الإيمان، ونحن نجد أنفسنا، وكل واحد منكم شاهد على ذلك بل ربما كل مواطن عربي في أي منطقة في البلاد العربية شاهد على ذلك .. أنه متى ما انطلق الناس ليربوا أنفسهم تربية إيمانية من خلال القرآن الكريم بما في ذلك الحديث عن الجهاد في سبيل الله, وعن مباينة أعداء الله، وعن إعداد أنفسهم للوقوف في وجوه أعداء الله كلهم يحس بخوف من سلاطينهم وزعمائهم».
عملية تربوية هامة جدا جدا
في ظل هذا العدوان على بلدنا يفضِّل البعض أن يرتمي اليمنيون في أحضان هذه الدولة أو تلك من الدول العظمى، غير أن الشهيد القائد يحذِر من الاعتماد على أي دولة، ويرى أن من أهم مظاهر التربية الإيمانية الاستقلالية، والاعتماد على الذات بعد الله تعالى في الإنفاق، والقدرات، وأن دين الله بنى الأمة بناء مستقلا عن الشرق والغرب.
لقد حذّر من عاقبة ذلك قائلا: «ربما يأتي حالة أنت لا تجد فيها طرفا يمكن أن يساعدك، فتنهزم من أول يوم، مثلما حصل للعرب الآن، تلفتوا الآن، بحثوا عن روسيا، فرنسا، الصين، لم يعد هناك الاتحاد السوفيتي سابقاً، استسلموا من أول يوم!، ألم يستسلموا من أول يوم؟ هذه عملية تربوية هامة جداً جداً».
وتوقع النصر لـ”أمة على هذا النحو تستطيع باستمرار أن تكون متحرِّكة، ولا أحد يستطيع أن يقهرها، ولا تكون مدينة لأي طرفٍ في نفس الوقت”، وأضاف: “من إيجابيات هذه التربية: أنها لا تصبح مدينة لطرف آخر”.
وعلل مذكِّراً بمبدئية منصِفة وأخلاقية رائعة: «لأن الدين هو مهمة عالمية، فهل من الناحية الأخلاقية، هل هو مقبول أن تأخذ من الفرس مساعدات لأنك تقاتل الروم، وأنت تعرف أن هذا الدين يجب أن يدين به الفرس، ويجب أن تدعوَهم إليه، فتقاتلهم متى ما اتجهوا ليصدوا عنه، سيكون معناه في الأخير: بأنه هذا الدين يمكن أن يخادِع، تقول لطرف من الأطراف: يساعدك، ويعينك حتى تنتهي، وتفرغ من قتال الطرف الآخر، وفي الأخير ترجع عليه عندما تكون قوياً» (سورة البقرة – الدرس التاسع من دروس رمضان).