الباحث أنس القاضي يكتب عن:عبقريةُ قائد الثورة
الإيمانُ بدور الجماهير الشعبيّة واعتبارُها القوى المحرِّكةَ للتاريخ لا يعني نفيَ دور الشخصيات القيادية، بل نتناولُ هذا الدورَ ونقيِّمُه بالارتباط مع نشاط الجماهير الشعبيّة وفي المجرى العام لنضالها من أجل التحرّر والتقدم.
وفي وضعنا التاريخي، برَزَ السيدُ عَبدُالملك الحوثي، كقائدٍ جماهيريٍّ ذي تأثير وإسهام في مجريات الواقع على الصعيدَين المحلي والإقليمي.
إِنَّ الحاجةَ إلى القيادات نابعةٌ من منطِقِ نشاطِ الجماهير، فالنشاط الجماهيري لا يمكن أن يكون فعالاً إلا إذَا نُظّم وجرى توجيهُه نحو المصالح العامة للحركة التاريخية وأهدافها، وتؤكّـدُ الخِبرةُ التاريخية أنه ما مِن طبقة أَو حركة في التاريخ بلغت أهدافَها دون الاهتداء والاحتكام إلى ممثليها الطليعيين القادرين على تنظيمِ الحركة الاجتماعية وقيادتها. كما تشهَدُ التجربةُ التاريخية بأن كثيراً من الثوراتِ التي اكتملت فيها الشروطُ الموضوعيةُ انتكست لوجود خللٍ في عاملها الذاتي سواء في عدم وجود القيادة أَو عدم كفاءتها وعدم وضوح نظرتها.
تحضُرُ الشخصياتُ القياديةُ التاريخيةُ في مخاضِ ولادة الجديد وتهالُكِ وسقوطِ القديم، في هذه المرحلة الحسّاسة من عمر الشعوب يتعيّن ويتطلّبُ -من أجل نجاحِ قضية التغيير الاجتماعي والتحرُّر الوطني- بذلُ وإنفاقُ جهود فائقة؛ للكشف عن إمْكَانيات وطرق النضال للوصول إلى الوضع الجديد وتحديد ملامحه، وتستدعي الحاجةُ والضرورة وجودَ الرائد والمرشِد والقائد، أي الفرد الأكثر قدرةً من بين الجميع على معرفة الجديد وتفهّمه واستنهاض وقيادة الحركة الجماهيرية أَو الطبقة الشعبيّة إلى الواقع الجديد، النقيض للواقع السابق، سواءٌ أكان السابقُ استبداداً محلياً أَو استعماراً أجنبياً أَو الاثنين معاً، وفي غالب الأمر يوجدُ الاستبدادُ المحلي مرافقاً للاستعمار الأجنبي، بل وكثيراً ما يأتي العدوانُ الأجنبي عقبَ الثورةِ على الاستبداد المحلي، وهذه الحقيقةُ التي تجلّت بعدَ ثورة 21 سبتمبر 2014م، لم تقتصرْ على الحالة اليمنية، ففي الثورتَين الفرنسية والروسية جاء العدوانُ الأجنبي بعد إسقاط الثوار لقوى الاستبداد المحلية.
إِنَّ الشخصياتِ البارزةَ تتمتعُ بقابليات تجعلُها قادرةً على تلبية الحاجات الاجتماعية الكبرى في عصرها، وهي تلعبُ دوراً بارزاً في حركة التاريخ، بقدر قدرتِها على استنهاضِ الحركات الاجتماعية، وبقدر ما ترى أبعدَ مما يراه الآخرون وتشعُرُ برغبةٍ أشدَّ منهم لتغييرِ النظام القائم.
إِنَّ قوةَ القناعة الشخصية هي إحدى أبرزِ شروطِ النشاط العملي والنظري للشخصيات القيادية، وصلابة القناعة الشخصية مستمدة من العقيدة، والعقيدة في دلالتها الأوسع في علم الاجتماع: هي منظومة آراء الإنسان في العالم وفي مكانته في هذا العالم..، هي مجموعةُ قناعات ومُثُل البشر العلمية والفلسفية والأخلاقية والدينية والجمالية..، والعقيدة هي لُبٌّ لفرد ونواته التي تتجسد فيها مبادئُه وأفعالُه وأهدافُه الحياتية”.
إِنَّ تصوُّرَ الإنسان لِمغزى الحياة هو ما يولّدُ الحاجةَ إلى الاختيار، واختيارُ الإنسان لما يجب أن يقومَ به ليسَ مسألةً سهلة بل قضيةٌ تتطلبُ شجاعةً وطنية وصلابة عقائدية، خَاصَّةً حين يكونُ الاختيارُ متعلقاً بقيادة ثورة وشعب، والتصدي لعدوان إمبريالي استعماري توسُّعي كالعدوان الغربي الخليجي على بلادنا.
إِنَّ المسألةَ الأَسَاسية للعقيدة هي مسألة علاقة الإنسان بالوجود، وهذه المسألة تشمل مسائلَ منشأ العالم وجوهره ومستقبله ومغزى الوجود البشري وإدراك الذات ودلالة مفاهيم الحقيقة والضلال والعدالة والظلم والحق والباطل والخير والشر والحرية والاستعباد… إلخ. والإجابات على هذه المسائل في فكر السيد عَبدالملك الحوثي تنطلقُ من معارفه القرآنية والإرث الفكري الذي أبدعه الشهيدُ حسين الحوثي، ويُمكِنُ القول بأن هذه المعارفَ شكّلت مواقفَ السيد قائد الثورة السياسية والاجتماعية والخلقية، واكتسبت طابعَ القناعة الداخلية لديه فأصبحت أَسَاساً لنمطِ حياته، وترسّخت طوالَ فترة نشاطه العملي والذهني في مواجهة الحروب العدوانية الظالمة على صعدةَ، ويتمثل أبرزُ عنصر من عناصر العقيدة في المُثُل العليا؛ كونها أهدافَ الحياة المنشودة والحاسمة. ومن بين خطابات كثيرة للسيد قائد الثورة فإِنَّه يلخّص أهدافَ الحياة المنشودة في العبارات التالية:
“وتذكّروا وعدَ الله لكم بالنصر حين قال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}، فانصروه ينصُرْكم واستعينوا به يُعِنْكم واذكُروه يذكُرْكم وكونوا عند حُسْنِ الظن به، حتى يأتيَ يومُ الله الموعود بنصر المستضعفين وهَلاك المستكبِرين، فينعم المظلومون بعدالة الله حين تتحقّقُ في أرضه ويعُمُّ الخيرُ والسلام، وينادي المنادي: فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ”.
إِنَّ التوجُّـهاتِ القِيَميةَ عنصرٌ بالغُ الأهميّة من عناصر البُنية الداخلية للشخصية، والتوجّـهات القيمية لكل إنسان مرسخة بتجربته الحياتية وبكل معاناته، فما هو مهم وجوهري لفرد ما يعد غير مهم وغير جوهري بالنسبة لفرد آخر. ومن هنا وعلى الصعيد القيمي والفلسفي يُفسَّرُ الاختلافُ ما بين القوى والشخصيات التي اتّخذت موقفاً مبدئياً من العدوان منذ بدايته وانخرطت في مقاومته، وما بين الشخصيات التي تعاملت معه بانتهازية أَو ادّعت الحيادَ أَو انخرطت في صفوفه. وعلى الصعيد القيادي للقوى السياسية اليمنية نجدُ أن العدوانَ الذي اعتبر السيدُ مقاومتَه قضيةَ وجودٍ وحرية، اعتبره الآخرون مسألةً لا شأنَ لهم بها أَو اعتبروه فرصةً مناسبةً للعمل مع الأجنبي وإزاحة القوى السياسية المنافِسة لهم في الداخل ولو عبر العدوان الأجنبي الاستعماري والتوسعي.
وقد اتسم قائدُ الثورة السيد عَبدالملك الحوثي بوحدة الكيان والمصداقية والوفاء والقدرة على الكفاح في سبيل المُثُل والقِيَم والإصرار على بلوغ الهدف، وهي القيم والمثل الإنسانية والدينية والوطنية التي لطالما انعكست بشفافية في خطاباته، وهذا ما أعطاه حضوراً شعبياً، فإلى جانب ما تحلّى به من هذه القيم الشخصية السامية، فقد أصبح السيد عَبدالملك الحوثي قيمةً بذاته لقطاعٍ واسعٍ من جماهير الثورة؛ لأَنَّه عبَّرَ عن المصالح والاحتياجات والأهداف الاجتماعية لهذه الجماهير التي وجدت فيه تعبيراً عن آمالها.
لقد تمتَّعَ قائدُ الثورة بالحَدَسِ الخَلَّاق والإقدام الذي لا يشوبهُ أيُّ تردُّد. وحين كانت تتعقّدُ القضايا وينفتحُ الوضعُ على احتمالات عديدة، كانت تظهَرُ عبقريةُ قائد الثورة، وتميَّزَ بحِسٍّ واقعي كبيرٍ على التمييز بين ما هو جوهريٌّ وأَسَاسي وبين ما هو هامشي وثانويٌّ، فكان يُقر تكتيكاتٍ معينةً ولا يضمر أيَّ تردّد، متحلّياً بالشجاعة، مما يولِّــدُ ثقةً لدى مَن توجّـه إليهم لتنفيذها من عسكريين أَو سياسيين أَو إداريين.
لقد أَدَّى السيدُ عَبدالملك الحوثي وأنصارُ الله دورَ طليعة الشعب في مواجهة العدوان طوالَ أربعة أعوام، والطليعةُ تُمارِسُ مهامَّها وأدوارَها كطليعة فقط عندما تتجنَّبُ الاعتزالَ عن الجماهير وتجسّدُ طليعيتَها بكل جدية كممارسة عملية، وهذا ما يقومُ به أنصارُ الله، ويتطلبُ منهم التعمُّقُ فيه وتطويرُه، وخَاصَّةً الاختلاط مع الجماهير والانفتاح مع كُـلِّ مَن له مصلحةٌ من الثورة الاجتماعية الديمقراطية والسيادة الوطنية، فليس هناك حَدٌّ نهائيُّ للتغلغل بين أوساط الجماهير والانفتاح عليها.