الإمام علي ( عليه السلام) امتداد النبوة ومشكاة الهداية

خاص ـ الحقيقة

إنه الإمام علي بن أبي طالب، رجلٌ جمع في ذاته أسرار النبوة، ومقاصد الرسالة، وحكمة الأولين والآخرين. ليس في تاريخ الإنسانية كلها من كان امتدادًا للنبوة كما كان علي، فهو ابن الكعبة مولدًا، وأول من لبى دعوة الإسلام، وأول من دافع عن الحق سيفًا، وأول من صبر على الظلم مقامًا، وأول من سال دمه على محراب العدل شهيدًا.

ما إن نذكر اسمه حتى تأخذنا سيرته إلى عوالم من النور، حيث تلتقي الأرواح بمعاني اليقين، وتسمو العقول إلى فضاءات الحكمة، وتبتهج القلوب برؤية العدل متجسدًا في رجل. لم يكن مجرد بطلٍ مغوار، ولا زاهدٍ ناسك، ولا خطيبٍ مفوّه، بل كان الإسلام متحركًا في صورة إنسان، كما قال عنه رسول الله صلى الله عليه وآله: «علي مع الحق، والحق مع علي».

وفي هذه السطور، نحاول أن نتناول شخصية الإمام  علي عليه السلام من زواياها المتعددة، متأملين في حياته التي كانت آيةً من آيات الكمال الإنساني.

 

الإمام علي (عليه السلام) في جانبه الروحي: الإسلام روحًا وفكرًا وسلوكًا

الإمام علي(عليه السلام)  وليد الكعبة الوحيد فلا قبله ولا بعده حصلت مثل هذه الولادة.

في هذا السياق يقول السيد محمد حسين فضل الله: (هي فضيلة للإمام علي(عليه السلام) كما هي بقية الفضائل،

وفيها إيحاء أنه ينطلق من الكعبة، من بيت الله، لتكون حياته كلها في طريق الله وفي محراب الله الجهادي والثقافي والروحي والعبادي وفي كل الحالات، لينتهي بعد ذلك في بيت الله هاتفاً (فزت ورب الكعبة بسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله(صلوات الله عليه وعلى آله)).

نشأ الإمام علي (عليه السلام) في بيت النبوة، وتربى في ظلال الوحي، فلم يكن مجرد تابعٍ للنبي (صلوات الله عليه وعلى آله)، بل كان امتدادًا لروحه، فانعكست أنوار الرسالة في فكره وسلوكه. كان رفيقه في العبادة منذ الأيام الأولى للإسلام، إذ كان يصلي خلفه  فكان البيت الذي ضم عليًّا وخديجة والنبي (صلوات الله عليه وعلى آله) هو أول بيت في الإسلام، يقوم على العقيدة والإيمان، لا مجرد روابط القرابة والنسب.

كان النبي (صلوات الله عليه وعلى آله) يغذّي عليًّا (عليه السلام) بالعلم والمعرفة، فكان التلميذ الأقرب إلى قلبه وعقله، حتى قال (عليه السلام): “عَلَّمَنِي رَسول الله أَلْفَ باب مِنَ العِلْم، يُفْتَح لي مِنْ كلِّ بابٍ ألْف باب”.

لم يكن تعلّق علي (عليه السلام) برسول الله مجرد محبةٍ أو قرابة، بل كان ارتباطًا روحيًا عميقًا، حتى قال فيه: «عليٌّ مني وأنا من عليّ، ولا يؤدي عني إلا أنا أو علي»،

فكان صدى لكلماته، وظلًا لخطاه، حتى إذا آخى النبي (صلوات الله عليه وعلى آله) بين المسلمين، لم يجعل له أخًا من بينهم، فكانت أخوّتهما أعمق من روابط الدم، إذ جمعت بينهما أُخوّة الروح والفكر والإيمان المطلق بالله.

لقد صنعه النبي (صلوات الله عليه وعلى آله) على عينه، وأعدّه ليكون النموذج الأرقى للمسلم الذي لا يرى في الوجود إلا الله، ولا يتحرك إلا في سبيله، ولا يبتغي إلا رضاه. ومن هنا، كان عليّ (عليه السلام) صورةً عن النبي (صلوات الله عليه وعلى آله) في علمه، في تقواه، في زهده، في شدته على أعداء الله، وفي رحمته بالمؤمنين، حتى صار رمزًا للإسلام الصافي، الذي لم يخلطه هوى، ولم تشبه مطامع الدنيا.

لم يكن الإسلام عند الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) مجرد انتماءٍ عقائديّ أو ممارسةٍ شعائرية، بل كان جوهر حياته وروح كيانه، فقد انطبع بالإسلام في كل فكره ومشاعره وعواطفه، فلم يعرف لنفسه وجودًا خارج إرادة الله، ولم يرَ لها مصلحةً إلا في خدمة دينه، مصداقًا لقوله تعالى:﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ (البقرة: 131)،{قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾ (الأنعام: 162-163).

لقد باع الإمام علي (عليه السلام) نفسه لله بيعًا لا رجعة فيه، فكان كل كيانه وقفًا على الله ورسوله. وحينما أنزل الله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ﴾ (البقرة: 207)، كانت هذه الآية تجسيدًا لحقيقة الإمام علي (عليه السلام)، فهو الذي جعل حياته كلها لله، في لحظات السلم كما في ساحات الحرب، في الشدة كما في الرخاء وهو القائل: ( و الله لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقينا)

حين طلب منه النبي (صلوات الله عليه وعلى آله) أن يبيت في فراشه ليلة الهجرة، لم يسأل عن مصيره، لم يفكر في الخطر المحدق به، بل كان همه الوحيد هو سلامة النبي (صلوات الله عليه وعلى آله) واستمرار الرسالة، فسأله فقط: “أَوَتَسْلَم يا رسول الله؟” فلما أجابه النبي بالإيجاب، سجد لله شكرًا، كأنما وجد في التضحية بنفسه من أجل رسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله) أعظم المكاسب وأسمى الغايات.

وحينما استخلفه رسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله) على المدينة في غزوة تبوك تَقَوَّل فيه المنافقون فشكا ذلك إلى رسول الله فقال له: «أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي»، أراد النبي صلى الله عليه وآله أن يبين للأمة منزلة الإمام علي عليه السلام فجعل منزلته كنفسه، وقرنه به في كل موقف، حتى قال: «علي مع الحق، والحق مع علي، يدور معه حيث دار»، شهادة نبوية خالدة تؤكد أن طريق علي عليه السلام هو طريق الهداية والرشاد.

وهكذا، كان علي (عليه السلام) رجلًا لم يعرف في حياته إلا الله ورسوله، ولم يجد راحته إلا في طاعة الله، ولم يعرف الحب إلا في سبيل الله، فكان النموذج الأكمل للمسلم الذي جسّد الإسلام روحًا وفكرًا وحياة.

 

الإمام علي عليه السلام في ميادين الجهاد: الإيمان كله في مواجهة الشرك كله

أما في الجانب الجهادي، فالإمام علي (عليه السلام) هو بطل الإسلام الأول بلا منازع، ورأس حربته في ميادين المواجهة، لم يعرف التراجع يومًا، ولم يهتز أمام جحافل الأعداء. كان قلبه معلقًا بالله، يقاتل بعقيدة لا تعرف الخوف، ويرى الموت في سبيل الله فوزًا وكرامة.

و كان (رضوان الله عليه) مدرسة في الجهاد و فنون الحرب لا يضاهيه أي أحد و لا يجرؤ أي صنديد على مواجهته مباشرة.

في معركة بدر، حين احتدمت المعركة، كان النبي (صلوات الله عليه وعلى آله) يحتاج إلى بطلٍ يبرز لمبارزة فرسان قريش، فقدم عليًّا قبل أصحابه، وكأنه كان يريده أن يكون أول من يسطر النصر في أول مواجهة فاصلة بين الإسلام والشرك. قاتل علي (عليه السلام) ببسالة، وأسقط عتاة قريش صرعى، فكان سيفه أول ما صنع النصر في بدر.

وفي أحد، عندما اضطرب الصف وانكشفت ساحة المعركة، لم يتراجع علي، بل كان من القلائل الذين ثبتوا مع رسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله)، يذود عنه بسيفه، ويمنع المشركين من الوصول إليه. كان يقاتل عن يقين، لا يخشى الموت، فحمل الراية بعد أن تساقط حملة الرايات واحدًا تلو الآخر، واستبسل حتى آخر المعركة.

وفي الخندق، حينما وقف عمرو بن عبد ود العامري، أشجع فرسان قريش، يصرخ: «هل من مبارز؟!»، تراجع الجميع عن مواجهته، فهو فارسٌ بألف رجل، ولم يجرؤ أحد على الخروج إليه، عندها قال النبي (صلوات الله عليه وعلى آله): «من يخرج له وله الجنة؟»، فقام علي قائلًا: «أنا له يا رسول الله»، فأجابه: «اجلس يا علي»، وكأنه يريد أن يعطي غيره فرصة، لكن لم يجرؤ أحد، كرر المشرك التحدي، وكرر النبي العرض، ولم يقم إلا علي، حينها سمح له النبي، فاندفع لمواجهة عمرو، وحين رأى النبي عليًّا يتقدم، قال كلمته الخالدة: «برز الإيمان كله للشرك كله». وما هي إلا لحظات حتى سقط عمرو صريعًا بسيف علي، وانطلقت هتافات تردد: «لا سيف إلا ذو الفقار، ولا فتى إلا علي»، إعلانًا لانتصار الإيمان في مواجهة الشرك.

وفي فتح خيبر، وقف مرحب اليهودي، وهو من أقوى وأشجع فرسان اليهود، متحديًا المسلمين، ولم يتمكن أحد من التغلب عليه. حينها قال النبي (صلوات الله عليه وعلى آله): «لأعطين الراية غدًا رجلًا يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، كرّار غير فرّار». فكان هذا الرجل علي بن أبي طالب، الذي انطلق في مواجهة مرحب، فأسقطه أرضًا بضربة واحدة، وفتح حصن خيبر العظيم، فكان نصره هذا من أعظم الفتوحات في تاريخ الإسلام.

وفي الجمل وصفين والنهروان، كان السيف الذي يذود عن الحق، فوقف بوجه الباطل بقلبٍ مطمئن، حتى لقي الله شهيدًا في محراب الصلاة، وهو يردد كلماته الخالدة: «فزتُ وربّ الكعبة»، وكأن روحه سبقته إلى عليين، لترتقي في ملكوت الله، حيث لا خوفٌ ولا حزن، بل لقاء الله الذي طالما اشتاق إليه.

البعد التاريخي والسياسي: دولة العدل في رؤية الإمام علي عليه السلام

لم يكن الإمام علي (عليه السلام) رجل سيفٍ فحسب، بل كان رجل دولة من الطراز الأول، يمتلك رؤية سياسية متكاملة للدولة العادلة، حيث لم يكن الحكم عنده غاية، بل وسيلة لتحقيق العدل وصون الحقوق وإقامة الحق بين الناس. جاءت خلافته في زمنٍ اشتدت فيه الأزمات، وترسخت فيه الانحرافات التي أبعدت الحكم عن جوهره الإسلامي، لكنه لم يحد عن مبدئه في إقامة العدل، حتى لو كان الثمن حربًا مع أصحاب المصالح وأهل الهوى.

 

عهد الإمام علي (عليه السلام ) لمالك الأشتر: دستور الحكم العادل

إذا أردنا أن نستلهم رؤية علي (عليه السلام) في الحكم، فإن عهده لمالك الأشتر هو أوضح وثيقة سياسية قدمها الإمام، فهو ليس مجرد وصية لحاكم، بل ميثاقٌ متكامل يحدد أسس الحكم الرشيد. عندما ولّى مالكًا على مصر، لم يزوده فقط بجيش أو بأوامر سياسية، بل أعطاه منهجًا للحكم قائمًا على المبادئ الإسلامية العليا، حيث جاء في العهد:

“وأشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبة لهم، واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعًا ضاريًا تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان: إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق.”

هذه الكلمات ليست مجرد توجيهات إدارية، بل هي تأسيسٌ لنظرية سياسية ترى في الحاكم خادمًا للشعب، لا متسلطًا عليه، وترسم علاقةً متكاملة بين الحاكم والرعية قائمة على العدل والرحمة، بعيدًا عن القهر والظلم.

الإمام علي عليه السلام  كان يرى ضرورة محاسبة المسؤولين، حيث أوصى مالكًا بمراقبة ولاته والابتعاد عن أصحاب المصالح، فقال:”ثم انظر في أمور عمالك فاستعملهم اختبارًا، ولا تولهم محاباةً وأثرة، فإنهم جماعٌ من شعب الجور والخيانة.”

وهذا المبدأ هو حجر الأساس في بناء دولة عادلة، إذ أن اختيار المسؤولين لا ينبغي أن يكون مبنيًا على الولاءات الشخصية، بل على الكفاءة والاستقامة، وهي أزمة لا تزال تعاني منها الكثير من الدول التي تسقط في فخ الفساد بسبب سوء اختيار القادة.

 

موقفه من المال العام والاقتصاد السياسي للدولة

لم يكن الإمام علي (عليه السلام) يرى في الحكم وسيلة للثراء أو استغلال الموارد العامة، بل كان يرى أن المال مال الأمة، وأن الحاكم ليس إلا مؤتمنًا عليه، حيث قال في عهده لمالك الأشتر:”وليكن أحب الأمور إليك أوسطها في الحق، وأعمها في العدل، وأجمعها لرضا الرعية، فإن سخط العامة يجحف برضا الخاصة، وإن سخط الخاصة يُغتفر مع رضا العامة.”

وهذا تأكيدٌ على أن العدل الاقتصادي أساس الاستقرار السياسي، وأن الدولة التي تُبنى على مصالح فئة معينة، وتهمل حاجات العامة، مصيرها إلى السقوط.

لم يكن الإمام علي (عليه السلام) حاكما مستبدا خطرًا على من يعارضه ، فلم يكن يحجر على الآراء، ولم يقمع من يخالفه، حتى مع أشد خصومه، فحينما سئل عن الخوارج الذين خرجوا عليه، قال:”لا تقاتلوا الخوارج بعدي، فليس من طلب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل فأدركه.”وهذا الموقف يكشف عن نظرته العميقة للحكم، حيث لم يكن يعتبر المعارضة جريمةً، بل كان يفرق بين من يطلب الحق ويخطئه، ومن يطلب الباطل عمدًا.

حكم الإمام علي (عليه السلام) لم يكن حكمًا تقليديًا، بل كان نموذجًا متكاملًا لدولة العدل، التي لم تجد من ينصفها في زمنٍ غلبت عليه المصالح والأهواء. كانت رؤيته للحكم سابقةً لعصره، ولو طُبقت مبادئه كما جاءت في عهده لمالك الأشتر، لكان العالم الإسلامي اليوم في حالٍ مختلف، حيث العدل هو الأساس، والشعب هو المحور، والحاكم هو المسؤول الأول أمام الله والتاريخ.

البعد الأخلاقي والإنساني: نموذج العدل والإحسان

إن الإمام علي(عليه السلام) كان العدالة متجسدة في رجل، حتى قال عمر بن الخطاب: «لولا علي لهلك عمر»، فقد كان مرجع كل قضية، وفاصل كل نزاع.

كان يقول: «الناس صنفان: إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق»، فكان يرى الإنسانية كلها عائلة واحدة، لا يفرق بين الناس إلا بميزان التقوى.

دخل يومًا على امرأة فقيرة في الكوفة، فوجد أطفالها يتضوّرون جوعًا، فأسرع إلى بيت المال، وحمل كيسًا من الدقيق على كتفه، وحينما أراد أحدهم أن يحمله عنه، قال له: «دعني، فمن يحمل عني ذنوبي يوم القيامة؟».

 

البعد الثقافي والفكري: عقلٌ يتحدى الزمن

لم يكن الإمام علي (عليه السلام) مجرد حاكمٍ عادلٍ أو فارسٍ شجاع، وحسب بل كان أيضاً عقلًا عبقريًا سابقًا لعصره، وفكرًا متقدًا لم تحده حدود الزمان والمكان، كانت كلماته تنبض بالحكمة، وتنطق بالبصيرة، حتى سُمي باب مدينة العلم، ولم يكن هذا اللقب مجرد ثناء، بل كان اعترافًا بعظمة فكره الذي امتد ليشمل الفقه، والفلسفة، والسياسة، والاجتماع، والأخلاق.

وإذا كان الإمام علي (عليه السلام) قد خاض ميادين القتال بسيفه، فقد خاض ميادين الفكر ببيانه، وخلّد تراثه الفكري في أعظم كتابٍ بعد القرآن، وهو نهج البلاغة، الذي جمع فيه الشريف الرضي خطبه ورسائله وحكمه، فكان كتابًا لا يشبه غيره، احتوى على أعمق المعاني وأبلغ العبارات، حتى قيل عنه: دون كلام الخالق، وفوق كلام المخلوق.

في نهج البلاغة، طرح الإمام علي (عليه السلام) رؤيته الكاملة للحياة، فتحدث عن الحكم العادل، وعن العدل الاجتماعي، وعن النفس البشرية، وعن صراع الحق والباطل، وعن علاقة الإنسان بربه، وعن الأخلاق التي تبني المجتمعات، بل حتى عن أسرار الكون والحياة.

لم يكن الإمام علي (عليه السلام) يجيب عن الأسئلة إجاباتٍ تقليدية، بل كان يجعل السائل يرى الأمور من زاوية جديدة، تعيد تشكيل فهمه للعالم.

جاءه رجل يسأله: «كم بين السماء والأرض؟»فقال (عليه السلام): «دعوةٌ مستجابة».

وسأله آخر: «كم بين المشرق والمغرب؟» فقال (عليه السلام): «مسيرة يومٍ للشمس».

بهذه العبارات المختصرة، كشف عن فهمٍ عميقٍ للعلاقة بين الإنسان والكون، فالمسافة الحقيقية بين السماء والأرض ليست بالأميال، بل هي دعوةٌ يرفعها المظلوم فيصل بها إلى الله. والمشرق والمغرب ليسا مجرد نقطتين جغرافيتين، بل هما دائرةٌ تدور فيها الشمس، فتختصر المسافات وتعيد ترتيب الزمن.

في زمنٍ كان الناس فيه يقيسون المعرفة بحفظ النصوص، جاء الإمام علي (عليه السلام) ليضع قاعدةً ذهبيةً لا تزال صالحةً لكل العصور، فقال:”العقل عقلان: عقلٌ مطبوع، وعقلٌ مسموع، ولا ينفع المسموع إذا لم يكن المطبوع.”

بهذه الجملة، لخص الفرق بين من يملك الفهم العميق، ومن يردد ما يسمع دون وعي، وكأنه يصف واقعنا اليوم، حيث كثرت المعلومات، لكن قلت الحكمة، وحيث أصبح كثيرٌ من الناس يتكلمون دون أن يفكروا، ويصدرون الأحكام دون أن يعوا الحقيقة.

لم يكن الإمام علي (عليه السلام)  يطرح أفكارًا نظرية، بل كان قائدًا عمليًا يعرف صعوبة طريق الحق، ويحذر من مغريات الباطل، فقال كلمته الخالدة:”أيها الناس، لا تستوحشوا طريق الحق لقلة سالكيه.”

بهذه الجملة، وضع قاعدةً أزليةً للصراع بين الحق والباطل، فطريق الحق ليس مزدحمًا، ولا مليئًا بالمصفقين، لكنه الطريق الذي يقود إلى النجاة. وكأنه يتحدث إلى أهل هذا الزمن، حيث أصبح الحق غريبًا، وكثر فيه أدعياء الباطل الذين يلبسون الحق بالزيف، ويتخذون من النفاق شعارًا.

لم يكن فكر الإمام علي (عليه السلام) محصورًا في زمنه، بل هو فكرٌ خالد، يصلح لكل عصرٍ ومكان، لأنه يعتمد على قواعد إلهية ثابتة، ومنطقٍ يستند إلى الحق والعدل. وفي نهج البلاغة، نجد أن كل جملةٍ قالها تحمل بصيرةً عميقةً تتحدى العصور، وكأنها كتبت لكل زمانٍ يحتاج فيه الإنسان إلى هدايةٍ وسط ظلام الفكر، وبوصلةٍ وسط أمواج الفتن.

 

البعد التربوي: معلم الأجيال وصانع الرجال

الإمام علي  كان مدرسةً كاملة في التربية، يعلم الناس كيف يكون الإنسان الكامل، ويزرع في قلوبهم معاني الرجولة والإيمان ويصنع القادة العظماء كمالك الأشتر و غيره من رجال الإسلام..

في وصيته لابنه الحسن، يقول:«اجعل نفسك ميزانًا بينك وبين غيرك، فأحبب لغيرك ما تحب لنفسك، واكره له ما تكره لها»،

فكأنما وضع بهذه الكلمات قاعدة الأخلاق التي تصلح بها الأمم، وتنهض بها الحضارات.

وكان يقول:«إذا قدرتَ على عدوك فاجعل العفو عنه شكرًا للقدرة عليه»،

فأي تربيةٍ أرقى من هذه؟ وأي خلقٍ أرفع من هذا؟

الإمام علي  (عليه السلام).. الحاضر في وجدان الأمة

ختما فإن الإمام علي ليس مجرد شخصية تاريخية، بل هو رمز خالد لكل باحث عن الحقيقة. سيرته ليست مجرد قصص تُروى، بل هي دروسٌ تُتّبع، وكلماته ليست مجرد أقوال، بل هي مصابيح تهدي السائرين في دروب الحياة.

اليوم، بعد أكثر من ألف عام على استشهاده، ما زالت كلماته تهز القلوب، وما زال اسمه يملأ الآفاق، وما زال سيفه مسلولًا في وجه الظلم، يذكّر الأمة بأن العدل لا يموت، وأن الحق لا يُهزم، وأن عليًا لا يزال يعيش في كل قلبٍ ينبض بالإيمان، وكل عقلٍ يطلب الحكمة، وكل روحٍ تبحث عن النور.

يقول الشهيد القائد السيد حسين بدر الدين الحوثي (رضوان الله عليه): ((ستحتاج الأمة إلى أن تتولى علياً وإن كان علي قد تحول إلى تراب في قبره، ستحتاج إلى أن تتولاه لتهتدي؛ لتسلم قلوبها، لتسلم في حياتها، تحتاج إلى أن تتولاه؛ لأن توليه شرط في تأهيل نفسها لتكون من (حزب الله) ما لم فلن يتحقق شيء، والله متى ما رسم شيئاً وحدده فلا يمكن أن يكون هناك شيء بديلاً عنه مهما بدا لك أنه يمكن أن يكون بديلاً عنه، فلا يمكن.

{وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} (المائدة: 56) الذين آمنوا هنا هو الإمام علي عليه السلام، بدون ولاية الإمام علي عليه السلام لن تتحقق هداية، ولن يتحقق للأمة ولأي جماعة وضعية تكون عليها جديرة بأن تسمى بـ(حزب الله) فتحظى بتأييد الله فتصبح هي حزبه الغالب.))

والسلام عليك يا أمير المؤمنين، يوم وُلدت، ويوم استُشهدت، ويوم تُبعث حيًا.

قد يعجبك ايضا