كاد إسلام محمد يتبدد لولا أن قام الحسين ثائراً ضد يزيد، ثائراً ضد النفاق، ضد تحريف الرسالة… وكادت الثورة أن تمسي سُبة في التراث العربي وغريبة في حياة المسلمين لولا أن ثار الحسين بجموع الصادقين.
أعلن بيان الثورة من عند ضريح رسول الله، رافضاً تقديم البيعة ليزيد بن معاوية، ثم توجه نحو مكة. لم تكن رسائل أهل الكوفة هي التي دفعت الحسين للخروج بالثورة، بل المبدئية والتسليم لله ورسوله، واحتكاما للعقل، حين قدر أن الوقت آن للخروج. وقبل الخروج بالثورة لم يكن الحسين مستكيناً، بل قائماً بالتعليم والدعوة الإسلامية محافظاً على الإسلام الأصيل الذي كان عليه جده رسول الله ووالداه وشقيقه، عليهم السلام آجميعن.
منذ ترسخ حكم بني أمية، وعقب استشهاد الإمام علي والإمام الحسن (عليهما السلام)، ساد في المجتمع الإسلامي الفتور عن القيام بالمسؤوليات العامة، انشغل أكثرية المسلمين بالحياة اليومية وطغت اهتماماتهم المعيشية على حساب القيم والمبادئ والتعاليم الإسلامية.
كان الواقع الثقافي الاجتماعي الذي يتصف بالاستكانة والخنوع، وغياب قول كلمة الحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بحاجة إلى هزة ثورية تعيده إلى الحياة من جديد، فكانت ثورة الحسين وكان استشهاده.
طيلة حكم بني أمية جرت عملية تحريف وتجريف للمفاهيم والقيم الإسلامية التي جاء بها رسول الله، وأشرقت بها رسالته الإلهية. كان أتباع بني أمية من رجال الدين المنافقين، يروجون لدين جديد يلبي مصالح بني أمية وحلفائهم من المترفين والمُستغِلين. وباسم رسول الله، كان يجري تحريف مضامين الدين الإسلامي ورواية أحاديث كاذبة منسوبة إلى رسول الله، وهي أحاديث تتناقض مع جوهر الرسالة الإسلامية، وتحض على العودة إلى الجاهلية وتُعيد الناس للطاغوت الذي يُعد شركاً بالله.
ومن هذه الأحاديث المكذوبة على رسول الله، حديث مضمونه يلزم المسلم “طاعة الأمير ولو جلد ظهره وأخذ ماله، ولو كان عبداً حبشياً رأسه زبيبة”، وهذا الحديث المختلق مناقض لتحررية الإسلام وعدالته.
في مواجهة ذلك الوضع الإسلامي المشوه، ثار الإمام الحسين، ليعيد إشراق الإسلام، ويعيد إلى حياة المسلمين قيم الحق والعدل والحرية والمساواة، فقبل خروجه من المدينة أطلق الإمام الحسين بيانه الثوري قائلا: “إني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق، ومن رد عليّ هذا أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق، وهو خير الحاكمين”.
رفض الإمام الحسين كل من أشار عليه بعدم الخروج من مكة إلى العراق، سواء بدعوة الشفقة والمحبة له، أم بالترهيب، أم انتظار الأمور حتى تتبين. وكان كل من يصادف الحسين يقول له الحقيقة في العراق: قلوب الناس معك وسيوفهم مع يزيد!
إصرار الحسين (عليه السلام) على الخروج لم يكن مغامرةً، بل كان موقفاً راسخاً قد اتخذه ولا تراجع عنه، من أجل إيقاد الجماهير الإسلامية لرفض تحريف الإسلام ورفض واقع العبودية، ومن أجل إحياء المسؤوليات العامة لدى المسلمين، وفي مقدمتها الجهاد في سبيل الله ضد الظلم والطغيان ولنصرة المستضعفين.
وقد لخص الإمام الحسين موقفه هذا قائلا: “إن كان دين محمد لا يستقيم إلّا بقتلي فيا سيوف خذيني”.
أثبت الإمام الحسين (عليه السلام) في ميدان كربلاء صموداً وثباتاً على الحق رافضاً عروض يزيد التي جاء بها ابن زياد، رغم معرفة الإمام الحسين بفارق الموازين بين صحبه وجيش يزيد، إلا أنه لم يتراجع عن قرار الثورة الذي اتخذه، فترك لأصحابه الخيار بين التفرق عنه أو القتال معه، لأنهم ثبتوا معه، وخطب الحسين في عاشوراً رافضاً عرض يزيد، قائلاً: “ألا وإنّ الدعي بن الدعي قدْ ركز بين اثنتين، بين السلة والذلّة، وهيهات منّا الذلّة، يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون، وحُجور طابت وحجور طهرت، وأُنوف حمية، ونفوس أبية، من أن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام”.
استشهاد الإمام الحسين (عليه السلام) في كربلاء وقتل آل بيته وسبي من تبقى منهم، مثلت هذه الواقعة فاجعة في الوسط الإسلامي. باستشهاده خسر المسلمون قائداً وهادياً عظيما من آل بيت رسول الله، فقدٌ لا يعوض.
برغم فاجعة كربلاء إلا أن دم الحسين انتصر في النهاية، ومشروعه هو الذي بقي وتخلد، أثمرت شهادة الإمام الحسين حينها إيقاظ جموع المسلمين، وخلق موقف من الحكم الأموي الذي ملأه الظلم والفسق والفساد.
بعد استشهاد الإمام الحسين، قامت الكثير من التمردات والثورات مستهدية بالنهج الحسيني ضد ظلم دولة بني امية. وحتى العصر الراهن لا يزال الإمام الحسين منارة ورمزاً ثورياً عالمياً يستلهم الأحرار والثوار من شخصيته المبدئية والشجاعة والفداء وعدم مهادنة الظلم ورفض القهر والاستعباد.
الحسين.. الرمز الثوري
“إننا في زمان كثير الفروع وفي كل فرع لنا كربلاء”. بهذه الكلمات يعكس الشاعر العراقي المناضل مظفر النواب مسألة جوهرية في الشعر العربي الحديث، وهي تحول الحسين إلى رمز، وتجاوز دلالة الحسين للواقعة التاريخية المعروفة لتستوعب كل واقعة جديدة تتماثل مع واقعة كربلاء.
تعد شخصية الإمام الحسين من أبرز الشخصيات الحاضرة في الأدب العربي. كان حضور الحسين في الشعر العربي القديم يقتصر على الرثاء والحزن وتذكر الحادثة التاريخية ذاتها، إلا أنه تطور بعد ذلك.
في الشعر العربي الحديث الذي كتب منذ خمسينيات القرن الماضي يحضر الحسين كرمز أسطوري.
انفتحت دلالة رمز الحسين في الشعر الحديث لتشمل قيم الحق والعدل وكل مضطهد وثائر ومقاوم، شخصاً كان أم بلداً. وجرى إعادة صياغة الحادثة التاريخية بأكثر من صورة لتعبر عن مواقف ووجدان وهموم الشاعر والمجتمع في العصر الحديث.
استطاع الشاعر العربي الحديث أن يوظف الطاقات الكامنة في رمزية شخصية الحسين التي تحظى بتعاطف إنساني وديني واسع في أوساط المجتمع العربي والإسلامي. وبات الحسين سلاحا للشاعر العربي الذي يعيد صياغه مأساة الحسين وكربلاء وطغيان يزيد كلما أراد نقد حكم الطغيان والاستبداد في واقعه.
تطلع الإنسان المعاصر إلى الثورة والتغيير، وانتكاس التجارب الثورية، جعله يعود إلى حادثة كربلاء التي باتت توازي حلم الانتقال إلى دولة الحق والعدل والرخاء والحرية، الحلم الذي حطمه يزيد ولايزال يحطمه اليوم حكم الاستعمار والطغيان والاستبداد في الواقع العربي.
فالحسين هو الثورة المستمرة عبر العصور، ورأس الثورة هو رأس الحسين يحمله الثوار المستعدون للتضحية في كل مكان، وفي ذلك يقول الشاعر البحريني قاسم حداد: