الإعلام ودوره في الإبادة الأخلاقية
عندما ينجح الإعلام في تحويل المفكر والمثقف ورجل الدين إلى تجار، وتتحول الأفكار والمواقف والخطابات إلى سلع تشترى وتباع، فإن هؤلاء يتحولون إلى تجار جهل وشقاء واستبداد للأمة،
بين فلسفة بثّ الصورة وصناعة المصطلحات، يدرك محور المقاومة أن الإعلام أحد أدوات الحرب علينا، لأنها حرب تضليل، تهدف إلى تشويه الحقائق والمفاهيم والقضايا والشخصيات والدول والشعوب والحركات والأحداث.
هذا ما نشهد أمثلته اليوم، حيث يجند المعسكر الغربي/الصهيوني بقيادة الولايات المتحدة كل وسائله، لكي ينتصر في هذا الميدان، وإن لم يستطع تحقيق ذلك عسكرياً.
وفي هذا الراهن يدرك محور المقاومة أنه “عندما تعلن الحرب فالحقيقة هي أول ضحية”، وهو لذلك يخوض دوراً محورياً في نقل الحدث وتوثيق جرائم “إسرائيل” من جهة، وفي مواجهة دور الإعلام الغربي و”بعض العربي” في صناعة التزييف والأكاذيب لمخاطبة الوجدان العام في بلادنا والعالم حول ما يرتكب من مجازر إبادة في فلسطين ولبنان.
في هذه القراءة تُفتتح الكثير من الأسئلة التي لا نهاية لها، لكن، وفي كلّ ألمٍ يصيب عمق ذاكرتنا، نكون قد عدنا إلى الكبار في بلادنا، فكيف نتحدّث بأسلوب يليق بأبجديتهم ولا تتجدّد دماؤنا؟ والاستثناء هنا هو انتماء سيد الشهداء السيد حسن نصر الله لسجلّ النجاح لا الفشل، حيث كان قائداً سياسيّاً وعبقريّة تنظيميّة لم تشهد السّاحة اللبنانية – الفلسطينية – السورية بل العربيّة مثيلاً لها منذ نصف قرنٍ مضى.
لم يخطئ القيادي في حركة “حماس”، فوزي برهوم، بالتأكيد أنه “علينا أن نقـاتل بالقلم والصورة حتى تصل روايتنا إلى العالم. معــركتنا ميدانية إعلامية بامتياز”، لمواجهة آلة الضغط الإعلامية الغربية الضخمة على بلادنا ومقاومتنا.
ولتحقيق السياسات الاستعمارية الغربية المعتمدة يلجأ أصحابها للترويج لها عبر وسائل الإعلام. فالإعلام المقاوم يُحرض جمهوره بصدق لكي يُحفزه على المقاومة. المقاومون أصحاب قضايا عادلة فلا يلزمهم فبركة الأكاذيب، بينما المستعمرون أصحاب قضايا ظالمة تستهدف الشعوب بثرواتها وأراضيها وبأمنها ليحقق الاستعمار غاياته، يلجأ لتشويه أعدائه تمهيداً لشن حروبه العدوانية، والتمهيد يبدأ باغتيال شخصية “العدو”.
هذا الغرب نفسه، دائماً وأبداً، لا يكون حاضراً في المواعيد الأخلاقية الكبرى. لقد كان غائباً في حصار العراق وقتل أطفاله، وحين سُئلتْ وزيرة خارجية أميركا السابقة مادلين أولبرايت: “هل يستحق الأمر موت مليون طفل عراقي من الجوع؟”، أجابتْ: “نعم، إنه يستحق”.
كم يتشابه هذا التصريح مع ما قالته وزيرة خارجية ألمانيا، أنالينا بيربوك، بأن بلادها لم تعد تخجل من إعلان دعم “إسرائيل” حتى في استهدافها المدنيين والأماكن المحمية بنصوص القانون الدولي مثل المستشفيات ومراكز النزوح.
يذكرنا واقع العراق هذا، قبل وبعد الغزو الأميركي البريطاني، بما قاله الروائي والمترجم الفلسطيني، جبرا إبراهيم جبرا، الذي كان في العراق، قال بعد قتل أطفال هذا البلد: “أنا أثق بهذه الحضارة التي فيها شكسبير وميلتون وإليوت وديلان توماس، لكنّ هؤلاء الذين يضربون بغداد لا أعرفهم. أنا حائر كيف أن حضارة أنجبتْ هذه الكنوز الإنسانية قادرة على أن تتحيْوَن إلى هذا الحد؟”.
أما في العدوان على سوريا فقد استخدمت كل قواعد إعلام الحرب العشرة التي كتبها رائد هذا الإعلام، السياسي الدبلوماسي البريطاني، آرثر بونسمبي، في كتابه “التزييف في زمن الحرب: أكاذيب الإعلام في الحرب العالمية الأولى” الذي صدر عام 1928. وها هي القواعد تستخدم من جديد في العدوان على فلسطين ولبنان، وهي:
– نحن لا نريد الحرب
– العدو هو المسؤول الوحيد عن اندلاع الحرب
– العدو هو كيان مرفوض
– غاياتنا نبيلة وإنسانية
– العدو يرتكب جرائم عن سابق إصرار وتصميم، أما أخطاؤنا فهي خارجة عن إرادتنا
– العدو يستخدم الأسلحة المحظورة
– نحن نتعرض للقليل من الخسائر، أما العدو فخسائره هائلة
– الفنانون والمثقفون يساندون قضيتنا
– قضيتنا مقدسة ومحقة
– كل الذين يشككون في الأعلام وفي قضيتنا هم خونة.
وهنا يتأكد لنا أن الاستعمار لا يكتب تاريخاً صالحاً للاستعمال أبداً، بل يعيد تنفيذ كل قواعد إعلام الحرب التي وردت في كتب بونسمبي، وما استحدث من قواعد ونظريات كشيطنة الشخصيات وصولاً إلى اغتيالها.
لقد أنفقت مليارات الدولارات على الإعلام بمختلف أشكاله، ووظفت الأحزاب والأشخاص من مختلف الاتجاهات من اليمين واليسار في الحرب على المقاومة في فلسطين ولبنان، وقبلها على سوريا والعراق باعتبارها حرب كونية ونتائجها ستحدد شكل العالم الجديد، كما حدث في الحربين العالميتين الأولى والثانية.
هكذا، يشهد عصرنا الحالي كميات مرعبة من الفبركات الإعلامية، والمعلومات المضللة، والأخبار الكاذبة، والبيانات المزيفة، والصور المركبة، وحملات دعائية تضخم التافه وتسطح المهم، حملات عدائية تشوه سمعة وصورة طرف معين وتنال من أخلاقه وذمته.
عندما ينجح الإعلام في تحويل المفكر والمثقف ورجل الدين إلى تجار، وتتحول الأفكار والمواقف والخطابات إلى سلع تشترى وتباع، فإن هؤلاء يتحولون إلى تجار جهل وشقاء واستبداد للأمة، ذلك لإسهامهم الخطير في تكريس الواقع المريض وإعادة إنتاجه بكامل علله.
الكاتب: نظام مارديني – سوريا