الأكاديمي الأردني د. حفظي اشتية يكتب عن : “غزة اليمن أوّلاً”
مضى ثلاثون حَولا كريتاً على الشعار الكئيب “غزة أريحا أولا” ، كنا قد تسابقنا نحو سراب سلامهم، وبريقه الخُلَّب، وسال لعابنا للاستقرار الموهوم والرخاء المزعوم، وتساقطت سنوات أعمارنا وتهاوت أوطاننا، ونحن نقطف ثمرات نكباتنا ومراراة خيباتنا، وشمسُ الحقائق تُعشي أعيننا كل صباح بينما نحن سادرون في أحلامنا، ننتظر أن نجني من قتاد الشوك عناقيد العنب.
لقد أسقطت غزة كل قناع، وتطايرت أوراق توت كثيرة لتنكشف كل سوأة : لا عدلَ في هذا العالم الظالم، وها هي مسميات التلاهي تهوي تباعا : أين الرأي العام العالمي ؟ أين مجلس الأمن ؟ أين حقوق الإنسان ؟ أين حقوق المرأة ؟ أين حقوق الطفل ؟ أين حقوق الدين والاعتقاد ؟ أين الديمقراطية ؟ أين الحضارة الغربية ؟ أين وأين وألف أين ؟؟؟؟!!! كلها شعارات مثل لهّايات الأطفال يلقمونها في أفواهنا، وهم يفتكون بنا ويخوضون في دمائنا.
نطوي صفحة حروبهم الصليبية لنقف على جرائمهم المعاصرة، فمنذ قرنين من الزمان وهم يجوسون بلادنا من المحيط إلى الخليج، وما انفكّوا يخرّبونها بشعار الاستعمار، ويستبدون بنا ليعلمونا ديمقراطياتهم الخبيثة، يخدعوننا بوعودهم العُرقوبية الكاذبة بالتوحّد والتحرّر، وأقلامهم تنفث السمّ الزّعاف بتوقيعاتهم واتفاقاتهم لتقسيم أوطاننا، وبثّ الفرقة بينا، وزرع السرطان الصهيوني في أحشائنا. والويل لنا إنْ صحونا يوما على مكرهم، أو رفعنا صوتنا في وجههم، أو عارضنا مخططاتهم، فسرعان ما يكشّرون عن أنيابهم، ويشرعون في أساليبهم الشيطانية : يقرّبون هذا ويبعدون ذاك، يَعِدُون هذا ويتوعّدون ذاك، والحقيقة الوحيدة أن الخسارة عظيمة والعاقبة وخيمة لكلٍّ من هذا وذاك.
وإذا استعصى عليهم بعض الأحرار كان الموت الزؤام هو النتيجة الحتمية والضريبة الجبرية، فتتوالى قوافل الشهداء من الأحرار : موتٌ بالمواجهة السافرة، موتٌ بالاغتيال والغدر، موتٌ في المنفى، موتٌ في السجن، موتٌ بالسمّ السريع، موتٌ بالسمّ البطيء، موتٌ بيد القريب، موتٌ بيد الغريب، موتٌ في رمضان، موتٌ يوم عيد الأضحى….. والاختيار القائم دوما محصور في أحد اثنين : موت بعزّ لمعارضتهم، أو عيش بذلّ لموالاتهم.
لكنّ الأحرار ما زالوا يتناسلون منذ ثورة الجزائر وليبيا ومصر والعراق والشام، والبطولات تتجلى في باب الواد واللطرون وميسلون والكرامة وعبور تشرين وصمود بيروت وانتفاضات فلسطين وفتكات العراق وجنوب لبنان….. فهذه الأمة لن تموت.
ولحكمة ربانية بالغة جاءت المواجهة العظمى الأخيرة في غزة، لتعطي للكون كله أوضح رسالة بأنّ هذه الأمة ستقاوم وتقاوم ولن تستسلم : مليونا غزّيّ فقط من ملياري مسلم، في شريط ضيق مخنوق بين بحر ورمضاء، وقفوا وحدهم في الميدان، في مواجهة جيش كانت تصطكّ لمجرد ذكره رُكَب العظماء، تشاركه سرا وخفاء، جهرا وعلانية، قوى الشر الغربية جمعاء، وبضعة آلاف من المقاومين المؤمنين الباسلين الشرفاء أعدّوا ما استطاعوا واستعدّوا، وأذاقوا هذا العدو كل ألوان الذل والهوان، أطاحوا بجبروته، وكشفوا ضعفه وجُبنه، وحطموا كبرياءه وغروره، وزلزلوا كيانه وأمانه، وهشّموا أسطورته وخرافته….. وصبروا كما لم يصبر شعب قطُّ من قبل، وواجهوا إبادة لم يشهد لها التاريخ بكل عصوره مثيلا، وذاقوا صنوف الموت التي لم تخطر على أي بال حتى في الخيال، وصمدوا وحدهم ــ إلا من جولات المقاومة اللبنانية والعراقية ــ وما زالوا صامدين .
ثم جاءهم الغوث من موطن العرب الأول ليعلن للدنيا بأسرها “اليمن غزة أولا”، لا ليبدأ رحلة استجداء السلام الذليل من جديد، بل ليفتح مشروع التحرّر العربي من كل هيمنة الغرب وصلفه وعدوانه ومكره وهيلمانه.
وهذه حكمة ربانية بالغة ثانية، اليمن النبيل المحاصَر الفقير يعيد قيمة شعارات الإخاء العربي والتناصر العربي والتضامن العربي، ويحاصر العدو الذي حاصر إخوانه في غزة عقدين من الزمن دون أي يرفّ لهذا العالم المتحضر بالزيف جفن رحمة أو إنسانية.
ويعيد التاريخ نفسه من جديد، فقبل سبعة وستين عاما تمّ تأميم قناة السويس العربية المصرية، فكان العدوان الثلاثي الغاشم الظالم، وكانت البطولات الخارقة للأبطال السُّمر الشُّمّ في بورسعيد، وانكسر العدوان شر انكسار.
وها نحن الآن أمام عدوان ماثل مماثل على أصل العرب، على الحضارة العظيمة العتيقة العريقة، على قتبان ومعين وحضرموت وحِمْيَر، ومن قبلها كلها على أصل الساميين، وعلى سبأ العظيمة وبلقيس الحكيمة، على سد مأرب، على قحطان، على العاربة أخوال إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، على الجبال الشماء الشامخة، على خليج عدن، على بحر العرب، على باب المندب البوابة العربية الصرفة الأبية إلى الجزيرة وبلاد النيل والشام والعالم القديم.
إنها بلادنا، مواطننا ومهادنا، وإنهم الغُزاة المعتدون الآثمون، ما ذهبنا إليهم، ولا جُبْنا بحارهم ومحيطاتهم، ولا اعتدينا عليهم…. كل ما أردناه هو تطبيق أحد بنود شريعة حمورابي قبل خمسة آلاف عام : العين بالعين، والحصار بالحصار.
لم نعلن حربا على تجارة العالم، ولم نستعدِ أحد، ولم نطلب مستحيلا، ارفعوا الحصار عن الشعب المظلوم لنرفع الحصار عن الكيان الغاصب، فلمَ سكتّم طويلا طويلا عن الحصار هناك، ودبّت فيكم الحمية سريعا وأخذتكم العنجهية عندما تمّ المساس بجزء يسير من مصالح ربيبكم المسخ المعتدي؟؟!!
تُغدقون إليه فوق ما يحتاج من أساسيات حياته وكمالياته وترفه ومتعته وبذخه، وتُغرقونه بأفتك أنواع القنابل والذخائر والأسلحة، وتمنعون رغيف الخبز وقطرة الماء وحبة الدواء والخيمة عن شعب كامل مقهور وحيد محاصر بقواكم العاتية الطاغية.
ثم يأتي وزير خارجيتكم الذي يركب الطائرة في واشنطن أمريكيا، ويهبط منها في تل أبيب يهوديا صهيونيا شايلوكيا ماكرا، ثم يَقْدُم علينا حرباويا مخادعا يبيعنا وهْما ويسوّق ألاعيب يجب ألّا تنطلي مجددا علينا، يتنطط أمام نواظرنا في عواصمنا مثل طائر “ملهّي الرعيان” الذي يتقافز أمام الراعي، فيتوهم أنه مُعاق وضعيف لا يقوى على الطيران، فيتبعه ليمسك به، وهو يغريه فيطير بضعة أمتار، ويهبط ثم يطير، والراعي يتبعه ساهيا لاهيا عن قطيعه الذي يعدو عليه الذئب وينفرد به نهشا وافتراسا وتمزيقا، ليعود الراعي الغافل أخيرا إلى معاينة الواقع الأليم، ويقطف ثمرة الأحلام، ويتذوق مرارة طعم الأوهام!!!!
أما نحن العرب والمسلمين، فقد آن الأوان الآن وليس غدا أن نفيق من أوهامنا، وأن نعي جيدا من هو عدونا، وأن نعتصم بحبل الله جميعا، ونوحّد جهودنا، ونتجاوز خزعبلات هذه الفرقة الجغرافية أو الطائفية المفتعلة، لننصر يوسُفَنا المظلوم الذي عطف عليه عامّة الخلق من أربع أرياح الأرض، وفزعتْ لصريخه أقاصي أمريكا اللاتينية وجنوب إفريقيا، ونحن عصبة أولو بأس شديد، لكننا عنه غافلون أو متغافلون أو مقصرون