اتفاقية الشراكة الاستراتيجية الصينية _ الإيرانية فرصة جديدة أمام الشعب العربي، أم قيد جديد؟ د. أحمد قايد الصايدي
اتفاقية الشراكة الاستراتيجية الصينية _ الإيرانية فرصة جديدة أمام الشعب العربي، أم قيد جديد؟
د. أحمد قايد الصايدي
تناقلت بعض الصحف ووسائل التواصل الاجتماعي أخبار الاتفاقية، التي عُقدت بين الصين وإيران. وهي اتفاقية إذا صح ما تسرب عن مضمونها، سيكون لها، كما يتوقع الكثيرون، تأثير اقتصادي وسياسي وعسكري بعيد المدى، على مستوى العالم، بشكل عام، وعلى مجمل الأوضاع في وطننا العربي، بشكل خاص.
ماذا تقول الأخبار المتناقلة؟: تم إبرام اتفاقية استراتيجية، بين الصين وإيران، ستستثمر الصين بموجبها ما يساوي 400 مليار دولار أمريكي على مدى 25 عاماً، في قطاعات مختلفة في إيران، ولا سيما في البنى التحتية، وفي قطاع النفط والغاز. ويعتبر حجم الاستثمار هذا أكبر استثمار دولي في العالم حتى الآن. وقد أبرمت هذه الاتفاقية بعد مفاوضات استمرت أربع سنوات، لم يعرف العالم عنها شيئاً.
ولنقل إن الاتفاقية قد أبرمت فعلاً، وأن حجم الاستثمار هو 400 مليار دولار، وأن ما تسرب عن مضمونها صحيح، وأن ما قيل، بأن العالم لم يعرف شيئاً عن الاتصالات والمفاوضات، التي استمرت أربع سنوات، صحيح أيضاً، رغم صعوبة تصديق ذلك. ولا سيما بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية، بأجهزة استخباراتها المتقدمة، التي اخترقت كل مناطق العالم ونفذت أصابعها إلى مفاصل الدول، فأسقطت حكومات وأقامت حكومات وأنشأت تنظيمات وصنعت زعامات وشوهت زعامات وتحكمت باقتصادات الشعوب وحياتها. ولكن لنقل أن كل ما قيل عن هذه الاتفاقية صحيح، فماذا يعني ذلك بالنسبة لنا نحن العرب؟
وقبل أن نحاول الإجابة عن هذا السؤال، قد يكون من المفيد أن نلخص أبرز ما قرأناه عن أهمية هذه الاتفاقية وما تضمنته بنودها، وعن ردود الفعل في الإعلام الأمريكي ولدى بعض المسؤولين الأمريكيين، الذين لهم رؤيتهم الخاصة إلى أنفسهم وإلى العالم. فأمريكا في نظرهم هي رمز الخير والعدل والإنسانية في العالم، والآخرون، المنافسون لها أو المقاومون لهيمنتها، هم رمز الشر والقبح والظلم والتوحش والإرهاب.
من أبرز ما تداولته الأخبار عن مضمون هذه الاتفاقية، ما يلي:
ستستفيد إيران من التقدم الصيني في مختلف المجالات، وخاصة في مجالي الاتصالات والمواصلات. فالصين رائدة في مجال تكنولوجيا الاتصالات ورائدة في تعبيد الطرق ومد السكك الحديدية وبناء المطارات. كما ستتولى الصين تحديث الاسطول التجاري البحري.
ستستهلك الصين كل إنتاج إيران من النفط والغاز، فتتجاوز إيران بذلك مشكلة تسويقه في السوق العالمية، التي سببتها العقوبات الأمريكية المفروضة عليها. وبالمقابل ستضمن الصين لنفسها توفير الطاقة، بعيدا عن التقلبات السياسية الدولية والمناورات الأمريكية.
ستُعتمد العملات الوطنية بين بكين وطهران، ومعهما موسكو. وسيكون لهذا تأثير كبير على النشاط التجاري والاستثماري الإيراني. وستتخلص الدول الثلاث من هيمنة عملة الدولار الأمريكي، التي تتحكم في حركتها الاقتصادية، وستصبح العقوبات الأمريكية غير قادرة على إعاقة عجلة التنمية في إيران، وسيساعد ذلك الصين في تعزيز مساعيها نحو تثبيت عملتها (اليوان) في التجارة العالمية.
ستحظى الصين ومعها روسيا، بتسهيلات للوصول إلى الخليج العربي، وبالتالي إلى الشرق الأوسط كله. وسيتعزز مشروع طريق الحرير، الذي سيكون له تأثيره في الاقتصاد العالمي، بشكل عام، وفي اقتصاديات عشرات الدول الآسيوية المجاورة براً وبحراً لكل من الصين وإيران.
من شأن هذه الاتفاقية، إذا ما نفذت، أن تحدث تغييراً كبيراً في التوازن الجيوسياسي في الشرق الأوسط. إذ أن الاتفاقية تضمنت تعاوناً عسكرياً جوياً وبحرياً كاملاً بين الصين وإيران وروسيا الاتحادية. وسيتاح للقاذفات الصينية والروسية والمقاتلات وطائرات النقل الوصول غير المقيد إلى القواعد الجوية الإيرانية. وستبنى من أجل ذلك منشآت ذات استخدام مزدوج، بجوار المطارات الحالية في همذان وبندر عباس وتشابهار وعبادان. وفي الوقت نفسه، ستكون السفن العسكرية الصينية والروسية قادرة على استخدام منشآت مزدوجة الاستخدام، بنتها حديثاً الشركات الصينية في الموانئ الإيرانية الرئيسية، تشابهار وبوشهر وبندر عباس.
ردود الفعل الأمريكية:
إذا كان كل ما تقدم صحيحاً، فما هي ردود الفعل الأمريكية، على ما تمثله الاتفاقية من خطر على النفوذ الاقتصادي والسياسي والأمني الأمريكي في المنطقة؟
اخبار التغيير برس
يعبر ما نشر في الصحف الأمريكية وما صرحت به بعض الشخصيات، ومنها شخصيات رسمية، يعبر عن قلق حقيقي لدى الأمريكيين من هذه الاتفاقية، رغم محاولتهم التقليل من شأنها، والتشكيك بجدواها، مع إضفاء الطابع الإنساني على أمريكا، التي تمثل قوة الخير وتقدم مساعدات نزيهة لبلدان العالم، بمقابل الصين، التي تمثل، في رأي هؤلاء، قوة الشر وتبتز الدول وتستنزف ثرواتها الطبيعية. وفي ما يلي بعض من ردود الفعل هذه، كما أوردتها بعض الكتابات:
ترى صحيفة (نيويورك تايمز) بأن الاتفاقية ستقوض جهود الإدارة الأمريكية، الهادفة إلى فرض عزلة على الحكومة الإيرانية والقضاء على طموحاتها النووية والعسكرية.
يرى وزير الدفاع الأميركي، مارك اسبر، & إن التحديات التي تشّكلها لنا الصين أولاً، ثم روسيا ثم دول أخرى، تفرض علينا مواصلة جهودنا على مسارات ثلاثة: بناء المزيد من الأسلحة الفتاكة وضمان الجهوزية، وتعزيز حلفائنا وبناء الشراكات، وأخيراً، تأهيل وإصلاح وترشيق وزارة الدفاع&.
ويرى ريتشارد جولدبرج، كبير المستشارين في (معهد الدفاع عن الديمقراطيات)، الذي شغل في العام الماضي منصب مدير (قسم محاسبة إيران عن أسلحة الدمار الشامل) في مجلس الأمن القومي ، يرى أن من المستغرب أن يبيع نظام مفلس أيديولوجياً، كالنظام الإيراني، الأصول الاقتصادية للشعب الإيراني إلى الحزب الشيوعي الصيني، لتجنب الانهيار المالي. وفي نظره أن الأمر & يبدو وكأنه عمل يائس أكثر منه تحد…. لقد رأينا الكثير من الإعلانات على مدى سنوات من الاستثمارات الصينية في إيران التي فشلت بسبب التهديد بفرض عقوبات أميركية&. ويؤكد بأن هذه العقوبات الأمريكية &تجعل غالبية الصفقات صعبة للغاية&. ويعتقد جولدبرج بأن الصين لا تزال غير قادرة على نشر قواتها العسكرية بعيداً عن حدودها. لذا فإن هدفها الاستراتيجي هو بناء علاقة مع دولة مفلسة، تسلمها مواردها الطبيعية وترهن نفسها لربع قرن من الزمن، مقابل الاستثمار في البنية التحتية. ويعبر جولدبرج عن نظرة الأمريكيين إلى أنفسهم وإلى دورهم (الخيِّر) في العالم، بقوله: &ما من دولة في العالم ساعدت المزيد من الناس على الخروج من براثن الفقر والحصول على المياه النظيفة والبقاء على قيد الحياة وتحقيق التعليم الأساسي أكثر من الولايات المتحدة. وبخلاف الصين، نحن لا نبتز الدول المتلقية ولا نصفي الموارد الطبيعية للبلدان&.
ويرى متحدث باسم الخارجية الأميركية، أن الولايات المتحدة & قوة من أجل الخير& في المنطقة. وأنها تسعى إلى معالجة مشاكل المنطقة من خلال العمل مع شركائها عبر تعزيز مصالحهم، وبما يراعي مصالحها أيضاً. في حين أن للصين تاريخاً &محبطاً ومخيّباً للآمال من عدم الوفاء بالالتزامات وانتهاك المعايير الدولية التي ساءت في السنوات الأخيرة بدلاً من أن تتحسن&. ويؤكد المتحدث على أن العقوبات ضد الصين وإيران أدوات مهمة وأن أمريكا ستواصل استخدامها بالتنسيق الوثيق مع شركائها وحلفائها الدوليين، وأن الأمريكيين لا يتوقعون من الدول أن تختار بين الولايات المتحدة والصين، &بل يجب وينبغي عليها أن تقيم علاقات قوية معنا. نريد من الدول أن تعي التكاليف التي ستتكبدها لقاء ارتباطات معينة مع الصين الشعبية، من سيادتها واستقرارها الإقليمي، وتأثيرها على النظام الدولي القائم على قواعد، والذي وفر الأمن والازدهار لعقود&. ويشير إلى أن الصين أحدثت &سلسلة من الفساد في الكثير من بلدان الحزام والطريق (يقصد طريق الحرير). وهو ما يتعارض مع أساليب الولايات المتحدة في إدارة عملها، التي لا مجال لمقارنتها مع الأساليب القسرية الاقتصادية للصين&، فللولايات المتحدة سجل حافل في ما تحققه في مجال التنمية المستدامة والحد من الفقر وتعزيز الابتكار التكنولوجي في البلدان النامية، التي تميز بين ما تقدمه الصين، وما تقدمه الولايات المتحدة الأمريكية. ولذا
& ليس من قبيل المصادفة أن هذه الصفقة المفترضة (يقصد الاتفاقية) تواجه معارضة قوية من الطيف السياسي في إيران، حيث يعارض الناس بشدة فكرة الاعتماد المتزايد على الصين&. ويؤكد المتحدث & أن الشركات الصينية المملوكة من الحكومة الصينية، والتي تنفذ مشاريع البنية التحتية في الخارج، أولاً، لا تقدّم بنية تحتية ذات قيمة وجودة عالية مقابل المال على المدى الطويل… وثانياً، تتجاهل الحوكمة الرشيدة وحماية البيئة والأوضاع الاجتماعية، ولا تيسر نقل التكنولوجيا وبناء القدرات التي تحتاج إليها البلدان النامية&.
على هذا النحو كانت ردود الفعل الأمريكية على الاتفاقية الصينية _ الإيرانية. وهكذا يرى الأمريكيون أنفسهم، ولا يهمهم ماهي حقيقتهم، وكيف يراهم الآخرون.
التأثيرات المحتلمة للاتفاقية على الوطن العربي:
يتلخص واقع الوطن العربي بما نشاهده من حروب أهلية وعدوان خارجي، وعمليات تفتيت مخطط له، تهدف إلى استبدال دويلات سايكس _ بيكو، بدويلات أصغر حجماً وأضعف تأثيراً وأكثر طواعية وتبعية للغرب الاستعماري، تمثل طوائف دينية وانتماءات عرقية وتكوينات قبلية أو جهوية، تتناحر فيما بينهما، وتبقى دائماً بحاجة إلى ولي الأمر (أمريكا)، لفظ نزاعاتها وإنهاء خصوماتها، أو إثارتها، بحسب الطلب. فيزداد الوطن العربي بذلك تمزقاً وتشرذماً وضعفاً، وتزداد نخبنا السياسية والثقافية تبعية للقوى الإقليمية والعالمية وغربة عن واقعها وابتعاداً عن تاريخها وتفريطاً بهويتها وبوطنها، في ظل غياب المشروع الوحدوي النهضوي العربي، وغياب حامله السياسي والثقافي.
وفي واقع، كواقعنا العربي الراهن، يمكننا أن نتصور تأثير الاتفاقية الصينية _ الإيرانية عليه. فالوطن العربي تحكمه أنظمة سياسية، أقل ما يمكن أن يقال عنها، أنها أنظمة تابعة، ليست مؤهلة للتعامل، تعاملاً مستقلاً، مع هذه الاتفاقية. وكل ما يمكن أن تفعله، هو أن تتوزع التبعية، بين محور الكتلة الجديدة، التي ستنشئه هذه الاتفاقية (الصين وإيران وروسيا، ومن سيلتحق بها)، وبين محور الولايات المتحدة وإسرائيل وحلفائهما الأوربيين. وسيكون الأتباع العرب في هذين المحورين هم الطرف الأضعف، الذي أدمن التفريط بأرضه وثرواته واستقلاله وكرامته ومستقبل أجياله، وانشغل بصراعاته الداخلية، التي هي بالأساس صراعات هذين المحورين، والتي ستصرفه عن أي جهود، لتحقيق الأمن والاستقرار والتنمية واستقلال القرار السياسي والدفاع عن المصالح العليا للشعب العربي. وكأنه لا خيار أمامنا نحن العرب، إلا أن نلتحق بهذا المحور أو ذاك. أما أن نفكر بأن يكون لنا محورنا الخاص، المعبر عن مشروعنا، وسط هذه المشاريع الإقليمية والدولية، التي تتمدد على حسابنا، فهذا في نظر البعض، ضرب من الوهم، ونزوع إلى المكابرة، التي لا نقوى عليها.
هذه اللوحة توحي بالتشاؤم، دون شك. ولكن هذا لا يعني اليأس. فهذه الأمة تختزن طاقات هائلة، يسندها تاريخ ممتد وحضارات عظيمة، تكونت في سياقها الشخصية العربية، القادرة على المقاومة والقادرة على الإبداع، والقادرة على الارتقاء بنفسها وتغيير واقعها المتردي، لتصبح في مستوى الأمم المتقدمة، ونداً لها. ولا ينقصها لتحقيق ذلك إلا قيادة تاريخية ناضجة مخلصة نزيهة مضحية، وحركة سياسية منظمة متماسكة واعية، ونخب ثقافية واثقة بنفسها وبشعبها، مؤمنة بتاريخها، معتزة بأمتها، متسلحة بوعي غير مشوه ولا مخترق، ومستعدة للتضحية في سبيل وحدة الوطن العربي كله، بأحلامه وطموحاته المشتركة ومشروعه الوحدوي النهضوي الواضح. فإذا ما توفرت مثل هذه القيادة والحركة والنخب، القادرة على تعبئة الشعب العربي وتوجيه طاقاته نحو تحقيق مشروعه، فإن الاستفادة من الاتفاقية ستصبح ممكنة. إذ أن المحور الأكثر عداءً لقضايا الأمة، والمكون من الولايات المتحدة وإسرائيل وحلفائهما الأوربيين وأتباعهما العرب، لن يبقى هو اللاعب الوحيد، بل سيدخل الملعب لاعب قوي آخر، سيحدث دخوله توازناً، يسمح للحركة السياسية العربية بأن تتحرك بحرية أكثر وبخيارات أوسع. وفي وضع كهذا، فإننا سنكون أقدر على المناورة، وعلى الاستفادة من تنافس وصراع وتوازن الكتلتين الكبيرتين، بصورة لا يمكن مقارنتها بحالنا الآن. على أن لا نُلحق أنفسنا كتابعين لإحدى هاتين الكتلتين، اللتين تسعيان إلى تحقيق مصالحهما الخاصة، ولا تكترثان بمصالحنا نحن، بل نتعامل معهما باستقلالية. نتعاون بقدر ما يخدم التعاون مصالحنا الوطنية والقومية، ونرفض ونقاوم كل ما من شأنه أن يلحق الضرر بنا وبمصالحنا وبوجودنا. وإلا فسنبقى فريسة، تتناهشها الذئاب، المتكالبة عليها من كل اتجاه.
صنعاء، 23 أغسطس 2020م