إرتيريـا وتحالف الشر السعودي الإماراتي
بعد خمس سنوات ونيف من عدوان تحالف العاصفة على اليمن، لم تكن دول القرن الإفريقي بعيدة عن مجريات أحداثها تأثراً وتأثيراً، بل والمشاركة المباشرة لبعض دولها في صناعة تلك الأحداث، في منطقة تموج بالقواعد العسكرية لكل جراد العالم وخفافيش الإقليم، وعُرفت تاريخياً بما يسميه الباحث الفرنسي “رولان مارشال” بطغيان حالة الارتزاق، وهذه المرة لصالح السعودية والإمارات ومن ورائهما إسرائيل.
ومنذ اليوم الأول للعدوان السعودي الإماراتي على اليمن 26 مارس 2015 سعت كل دولة من دول القرن الإفريقي للتفاوض مع مختلف الفاعلين والمشاركين والداعمين والمعارضين لعدوان تحالف العاصفة، وتحديد استراتيجيتها الخاصة وفقاً لوضعها الجغرافي وسياستها الداخلية والدور الذي تلعبه على الساحة الدولية كما يرى الكاتب الفرنسي ” ألكساندر لوري”، وبذلك أصبح العدوان السعودي الإماراتي على اليمن بمثابة طوق النجاة وبوابة الخلاص لبعض تلك الدول، والعصى السحرية لتجاوز مشاكلها الداخلية والإقليمية، والخروج من العزلة الدولية ورفع العقوبات الأممية المفروضة عليها، كما هو حال إرتيريا، والبحث عن دور إقليمي في منطقة البحر الأحمر وباب المندب تحت مظلة المصالح الإسرائيلية، بما لها من علاقات استراتيجية مع معظم دول الإقليم ودول الفيتو.
وتتفرد إرتيريا عن بقية دول القرن الإفريقي بإشرافها على مضيق باب المندب، وحدودها البحرية الواسعة مع اليمن والسعودية، وقربها الشديد من الموانئ اليمنية على البحر الأحمر، وهو ما جعلها على قائمة اهتمام دول عدوان تحالف العاصفة على اليمن منذ العام 2015، ولم تكن قبلها تحظى بأي اهتمام عربي وتحديداً من السعودية والإمارات، لتصبح فجأة من أهم القواعد العسكرية لانطلاق الغارات الجوية على اليمن وتجميع وتأهيل وتدريب المرتزقة بتلاوينهم قبل نقلهم الى اليمن، ومركز القيادة للعمليات اللوجستية لتحالف العاصفة، ووحدة التخطيط المركزية لاحتلال الجزر والمدن الساحلية اليمنية.
وما كان لتحالف العاصفة هذا التحول المفاجئ نحو أسمرة لو لم يكن هناك توجيه من واشنطن، وضوء أخضر وتمهيد من تل أبيب، خصوصاً بعد تحول بوصلة العداء العربي والخليجي تحديداً من إسرائيل إلى إيران، بالتوازي مع تزايد المخاوف الأميركية الصهيونية من تعاظم النفوذ الإيراني في إرتيريا والقرن الإفريقي وإفريقيا عامة، رغم نفي أسمرة لأي تواجد إيراني في أراضيها، وتأكيدها المستمر على أن ما يربطهما مجرد علاقات روتينية عادية، لكن هذه التأكيدات لم تقنع تل أبيب وواشنطن، ما جعل الأخيرة توجه الرياض وأبو ظبي بسرعة احتواء أسمرة والضغط عليها لقطع علاقتها مع طهران، إسوة بجيبوتي، مقابل حزمة من الإغراءات والوعود سنتحدث عنها في المبحث القادم.
بعد احتلال التحالف السعودي الإماراتي لمدينة عدن في أغسطس 2015، انتشرت في شوارع ثغر اليمن الباسم لافتات تشكر الدول المشاركة في العدوان على اليمن، ومن بينها لافتة تحمل عنوان “شكراً إرتيريا” مع صورة للرئيس الإرتيري “أسياسي أفورقي”، وحين سُئل أحد المسؤولين في حكومة الفنادق الموالية للعدوان عن سبب توجيه الشكر لإرتيريا، أجاب بأن ذلك عرفاناً بجهود رئيسها مع دول التحالف.
وبعد شهرين من سقوط عدن بيد قوات الاحتلال تحدث تقرير للأمم المتحدة بتاريخ 21 أكتوبر 2015 عن سماح إرتيريا للتحالف باستخدام أراضيها وأجوائها ومياهها الإقليمية، بالإضافة الى مشاركة 400 جندي إرتيري في احتلال مدينة عدن، بموجب اتفاقية موقعة بين الطرفين، مقابل الحصول على منح مالية ووقود وامتيازات وتعهدات أخرى.
التحول المفاجئ في اهتمام السعودية والإمارات بدول شرق إفريقيا بصورة عامة وإرتيريا بصورة خاصة، بعد عقود من الجفاء والغياب العربي، لم يكن من أجل تفعيل الوجود العربي في هذه المنطقة، رغم ما لها من أهمية كبيرة في الحفاظ على الأمن القومي العربي وأمن البحر الأحمر وباب المندب، بل من أجل مواجهة التمدد الإيراني، وهو ما ساعد الكيان الصهيوني على سرعة التمدد وملئ الفراغ العربي هناك، وتحويلها الى شوكة قاتلة في خاصرة الأمن القومي العربي، بمباركة ومشاركة عربية خليجية مخزية.
والمثير للغرابة هنا أن الاندفاع السعودي الإماراتي نحو القرن الأفريقي، لم يكن بقرارات سيادية ذاتية، ولم يكن من أجل حماية الأمن القومي العربي من الخطر الصهيوني، بل نحن أمام اندفاع موجه من البيت الأسود لمحاربة الوجود الإيراني في دول القرن الإفريقي، وجر هذه الدول للمشاركة في الحرب الظالمة على اليمن، وبمباركة إسرائيلية لم تعد خافية على أحد، في وقت أصبحت فيه إيران وحركات المقاومة والممانعة تمثل في وعي صهاينة العرب الجُدد التهديد والخطر الاستراتيجي الأول على الأمن القومي العربي وليس إسرائيل.
في هذا المبحث والمبحث القادم سنحاول تقديم قراءة مبسطة للاندفاع السعودي الإماراتي نحو أسمرة والعكس، وعلاقة ذلك بالحرب الجائرة على اليمن، وموقع إسرائيل من هذا التقارب ومخاضاته وأهداف وأجندة أطراف هذا التقارب المثير للدهشة والاستغراب في زمن الانبطاح والأقزام.
جيبوتي القبلة الأولى:بدأ الاهتمام السعودي والإماراتي بدول القرن الإفريقي مع اقتراب معارك التحالف من مدينة وميناء عدن، من أجل تأمين هذه المدينة الاستراتيجية بعد احتلالها، وتم اختيار جيبوتي في البداية كقاعدة خلفية لإدارة عمليات التحالف في اليمن، بسبب وقوعها على مقربة من خليج عدن، لكن الأمور لم تسر كما كان مخططاً لها، فقد نشب خلافٌ بين جيبوتي والإمارات بسبب هبوط طائرة إماراتية في مطار جيبوتي بدون ترخيص 4 مايو 2015، ما أدى الى حدوث مشادة بين قائد سلاح الجو الجيبوتي ومسؤولين إماراتيين وتلقي نائب القنصل الإماراتي “علي الشحي” لكمة على وجهه، الى جانب تنازع قانوني سابق بينهما حول صفقات اقتصادية أخرى، جعلت جيبوتي تقرر طرد القوات السعودية والإماراتية من أراضيها، وقطع العلاقات الدبلوماسية مع الإمارات.
وفي أكتوبر 2015 نجحت الرياض في احتواء الخلاف مع جيبوتي، واستعادت مطار “كامب ليمونييه” – وهو قاعدة عسكرية أميركية، كان التحالف قد استأجرها في مطلع أبريل 2015 لدعم عملياته في اليمن – مقابل حصول جيبوتي على زوارق دورية ومروحيات وأسلحة وسيارات إسعاف
وفي مارس 2016 جرت مباحثات بين الرياض وجيبوتي تم فيها توقيع اتفاق أمني ثنائي شامل، يتضمّن إعادة إنشاء قاعدة عسكرية سعودية طويلة الأمد في جيبوتي.
إماراتياً، رغم استئناف العلاقات رسمياً مع جيبوتي في وقت لاحق، إلا أن المياه بينهما لم تعد إلى طبيعتها، وهو ما جعل الإمارات تستبدل جيبوتي بإرتيريا.
وإجمالاً تعد جيبوتي إلى جانب استخدام أراضيها وجزرها لانطلاق طائرات العدوان لشن الغارات على اليمن، مقراً لتخزين المساعدات الأممية المخصصة لليمن وتفتيش السفن التجارية اليمنية قبل دخولها الى الموانئ اليمنية واحتجازها بأوامر التحالف ومراقبة الشواطئ والسواحل اليمنية، وإدارة الحصار البحري على اليمن.
إرتيريا البديل الاستراتيجي:
تتميز إريتريا بموقعها الاستراتيجي على الساحل الغربي للبحر الأحمر، ووقوعها في منطقة بحرية مفتوحة تسمح لها بالتحكم في المدخل الجنوبي للبحر الأحمر “باب المندب”، وتزايدت أهمية موقعها بعد افتتاح قناة السويس، بسبب امتداد سواحلها على مدخل البحر الأحمر في مواجهة اليمن والسعودية, وتبلغ مساحتها 124 ألف كيلو متر مربع، وعدد سكانها قرابة3750000 نسمة، منهم نحو مليون نسمة يعيشون خارج بلادهم.
نالت إرتيريا الاستقلال عن إثيوبيا في مايو 1993، ولم يكن لديها أي مقوم من مقومات الدولة لحظتها، بسبب محدودية حجم الموارد الطبيعية والبشرية وهشاشة وضعها الأمني وعدم استقرار علاقاتها السياسية مع جيرانيها، وخوضها سلسلة من الحروب بعد استقلالها مع إثيوبيا وجيبوتي واليمن، والدخول في عدة نزاعات مع الصومال والسودان، ما جعل دول الجوار تفرض العزلة عليها، لأنها أصحبت تمثل عامل قلقل واضطراب لا عامل أمن واستقرار في محيطها الإقليمي، ناهيك عن تزايد الاتهامات لها باحتضان بعض قوى المعارضة لدول الجوار، والوقوف وراء عمليات القرصنة البحرية، ودعم قوى متهمة بالارتباط مع تنظيم القاعدة منها حركة الشباب الصومالية.
هذه الأمور مجتمعة جعلتها تعاني من العزلة الإقليمية والعقوبات الأميركية والدولية، وما بينهما اتجهت لاعتماد سياسة اللعب على المتناقضات في علاقتها الخارجية، بالاستفادة من موقعها المتميز على البحر الأحمر من أجل البقاء على قيد الحياة، فشرعت في نسج علاقاتها مع مختلف الدول المتشاكسة والمتباينة في المصالح في المشرق العربي بما فيها إسرائيل وإيران ومصر والإمارات والسعودية وروسيا والصين ..ألخ، وتحولت بين ليلة وضحاها الى سوق رائج لبيع القواعد العسكرية وفتح أراضيها لجيوش الشرق والغرب، في منطقة تتسابق كل الدول الكبرى والدول الإقليمية الوازنة للتواجد العسكري فيها.
ومن أهم موانئ إرتيريا، مدينة وميناء عصب وفيها قواعد عسكرية لعدة دول أهمها الكيان الصهيوني والإمارات والسعودية، وزادت أهميتها بعد العدوان السعودي الإماراتي على اليمن، وكانت إثيوبيا تستخدم ميناء عصب لتصدير ثلث تجارتها للعالم، ومنذ استقلال إرتيريا فقد الميناء معظم أهميته، إلا أن العدوان على اليمن أعاده الى الواجهة من جديد، ليصبح أحد أهم نقاط انطلاق الضربات الجوية على اليمن، ومن أهم مناطق تواجد القواعد الأجنبية في القرن الإفريقي، وبوابة إسرائيل الأولى نحو شرق ووسط إفريقيا وشبه جزيرة العرب وباب المندب.
عوامل جيوبوليتيكية عديدة جعلت تحالف العاصفة يعزز وجوده في إرتيريا ويتخذها قاعدة بديلة لجيبوتي وجبهة متقدمة لبناء نفوذه في شرق ووسط إفريقيا وقاعدة عسكرية لتصفية حساباته الإقليمية بدءاً باليمن، منها:
1– تمتع إرتيريا بساحل طويل على البحر الأحمر يمتد لأكثر من 1200 كيلو متر ويقع في الجهة المقابل لليمن والسعودية، وتشكل الموانئ والجزر الإرتيرية نقطة لوجستية محلية مهمة من حيث الموقع وقرب المسافة من اليمن، حيث تسمح بتواجد السفن الكبيرة وبحركة أسهل للسفن الصغيرة المخصصة للإنزال بين عدن والموانئ الأقرب لها، دون الحاجة إلى المرور كل مرة عبر الخليج العربي أو عبر عمق البحر الأحمر، لذا فهو يمثل عسكرياً عامل أمان كبير لعمليات نقل قوات ومعدات التحالف السعودي الإماراتي الإسرائيلي.
2 – وقوع موانئ عصب ومصوع الإرتيرية على مقربة من الموانئ اليمنية؛ حيث يبتعد الأول عن الساحل اليمني بنحو 60 كيلو متر فقط وعن باب المندب 20 ميل بحري وعن ميناء المخا 40 ميل بحري، بينما يبتعد الثاني عن ميناء الصليف باليمن بنحو 350 كيلو متر، وعن ميناء الحديدة 380 كيلو متر.
3 – تشابه تضاريس إرتيريا مع اليمن، لذا قررت دول التحالف ضرورة الاستفادة من هذا البلد الإفريقي في أي عملية إنزال، إما كمنطلق لهذه العملية، أو لتأمين القوات التي ستقوم بالإنزال، أو للتدريب في الأراضي الإرتيرية على طبيعة الأراضي اليمنية قبل بدء عملية الإنزال أو التدخل البري.
سياسياً، سارعت أسمرة مع بداية العدوان على اليمن الى الاعتراف بشرعية حكومة المرتزقة بقيادة الرئيس المنتهية ولايته “عبدربه منصور هادي” 31 مارس 2015، ونشر 400 مرتزق إرتيري في مدينة عدن في أكتوبر 2015 بحسب تقرير للأمم المتحدة، لكن سرعان ما تم استبدالهم بمرتزقة من أوغندا والتشاد والسودان، لتتحول إرتيريا بعدها الى قاعدة لوجستية مفتوحة لانطلاق الغارات على اليمن ومحطة ترانزيت لتجميع المرتزقة الأفارقة واليمنيين وتدريبهم وتأهيلهم قبل نقلهم الى اليمن، وغرفة عمليات للتخطيط لاحتلال الجزر والمدن اليمنية الساحلية، ومعتقل سري إماراتي لمعارضيها في المناطق اليمنية المحتلة، وملاذ آمن لوزراء حكومة المرتزقة اليمنية عند تعرضهم للخطر في مدينة عدن.
والمثير للسخرية هنا إتيان اعتراف إرتيريا بشرعية المرتزق المنتهية ولايته “عبدربه منصور هادي” في نفس توقيت اتهام ملحق هادي العسكري في القاهرة لإرتيريا بدعم حركة أنصار الله بالتنسيق مع إيران، غير أن تسارع الأحداث كشف زيف هذه الادعاءات، وأكد وجود تنسيق كامل بين التحالف وأسمرة قبل بدء العدوان على اليمن بأشهر.
* المراجع:
– الكسندر ميلو ومايكل نايتس، الإمارات تضع أنظارها على “غرب السويس”، معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، 2 سبتمبر 2016.
– محمد توكل وعلاء أبو العينين، ارتفاع سقف التوقعات بدور إرتيري في حرب اليمن، رأي اليوم، 9 مايو 2015.
– ألكساندر لوري، حرب اليمن تزعزع القرن الإفريقي، مجلة أوريان 21 الفرنسية، 21 فبراير 2019.
– سهير الشربيني، انعكاس سياسات التغلغل الإسرائيلي في أفريقيا على أمن وسلامة البحر الأحمر، المركز العربي للبحوث والدراسات، 11 أبريل 2019.
– محمد السعيد، من أبوظبي لواشنطن .. كيف تحولت “إريتريا” لسلاح إفريقي جديد؟، الجزيرة نت، 7 يناير 2019.
– وكالة الصحافة اليمنية، هذا هو الخطر القادم على اليمن من أفقر دولة إفريقية، 27 يونيو.
(مركز البحوث والمعلومات – زيد المحبشي)