أيار الفاتحة وسيد الوعد
أحمد فؤاد
لنثبت من جديد، أن الدم هنا ينتصر على السيف
وأن الدم هنا قهر السيف وهزمه..
وأن الدم هنا حطم كل قيد..
وأن الدم هنا أذل كل طاغية ومستكبر.
سماحة السيد حسن نصر الله – عشية التحرير والنصر.
قبل أن تموج منطقة الشرق الأوسط بالتفاعلات الحادة، وتجتذب صراعاتها المزيد من الأطراف الفاعلة، في زمن العلو الأميركي الجبار منذ مطلع التسعينيات، حين صارت واشنطن قطب العالم وقوته الوحيدة الهادرة، لم تكن هناك صورة منحتنا ضفة واسعة من الآمال، قدر ما فعلت صورة قطعان الجيش الذي لم يعد يُقهر، هاربة في فجر ندي، في أيار من العام 2000.
في أيام الانتصار وفجر المجد المبكر، ورغم محاولات التغطية والتعمية على أول انسحاب صهيوني من أرضٍ عربية، دون اتفاقات استسلامية، بات واضحًا أننا على أعتاب عهد جديد بالكامل، يكتبه الجنوبي ببندقية ذخرها الإيمان، ووضع فيها بوصلته إلى طريق القدس، ورسم فلسطين هدفًا نهائيًا أوحد.
“حزب الله هو من فرض علينا شكل وتوقيت الانسحاب من لبنان في أيار من العام 2000”.. الفقرة السابقة هي كلمات رئيس شعبة العمليات، ورئيس مجلس الأمن القومي الصهيوني السابق، الجنرال غيورا آيلان، في مقابلة مع إذاعة الجيش الصهيوني، بتاريخ 2016.
المراجعة العربية الأمينة لما جرى نهار 25 أيار، ترسم حدودًا لنصر طاول النجوم، هزيمة صهيونية في فرض إرادتها كما اعتادت، ثم فشل كارثي في عدوان عناقيد الغضب 1996، وصولًا إلى عجز كامل جلي عن المبادرة، والأخيرة هي محور بقاء الكيان، كما يتوهم قادته وأركان الحكم والإستراتيجية فيه، ترجم هذا كله إلى مشهد الفرار من الجنوب في أيار.
بخروج الجيش الصهيوني من الجنوب، بقرار إيهود باراك، كُسرت محرّمات عدة في العقيدة الصهيونية، لم يكن لها في العام 2000 سابق، هزيمة واضحة وكاملة أمام أعين العالم، انسحاب دون شروط، وتخلٍّ عن أرض بلا اتفاقيات، ثم ترك ميليشياتها العميلة لمصيرها، والأهم:
هروب مذل تحت وطأة ضربات المقاومة الإسلامية المستمرة وأثمانها المرتفعة، وهو أمر كان الكيان دومًا يتجنب الوقوع فيه.
للمفارقة فإن بين انتهاء القتال على الجبهة المصرية في تشرين أول/1973 وبين الانسحاب الصهيوني المشروط بما نعرفه من شروط مذلة، وما ارتضته الأنظمة المرتهنة من شروط سالبة للسيادة، مرت 16 عامًا حتى تاريخ عودة طابا في 1989، بما يكسر الربط في الوعي العربي بين الحرب وبين التحرير، وهذا الربط جرى رغمًا عن أنف الكيان في أيار 2000 للمرة الأولى فقط.
كرّت الأيام والشهور بعد أيار، لتحمل أهم انتصاراتنا، في تموز 2006، كتب حصاد عظيم لبذرة طيبة، رواها الدم الزكي، وقام عليها الإيمان في بيئة عرفت معنى الفداء الحقيقي، وتشبعت بروح البطولة، وأدركت أن بقاءها يكمن في الانتصار، لا المساومة أو الوقوف عند حدّ ما، ومنحت أبطالها أقصى ما يمكن من إمكانيات الصمود والقتال والصبر.
في كل هذه المشاهد كان السيد حاضرًا، برؤيته وبصيرته، يحمل للجميع اليقين ويثبت القدرة العربية في مواجهة العلو الأميركي والتغول الصهيوني على كل شعوب المنطقة. بين النصرين العظيمين، في 2003 وقف جورج بوش ليعلن بجلافة غير مسبوقة: “من ليس معنا فهو ضدنا”، وتبارت الأنظمة الرسمية العربية في أيها يسبق الآخرى في الركوع وتقديم فروض الطاعة والولاء للسيد الساكن بالبيت الأبيض، وضاعت بغداد بين غَمضة عَين وانتباهتها، ووطئتها حوافر التتار الجدد.
لم يكن في هذه الأيام من يحمل الغد، انتصارًا وفعلًا عربيًا وإسلاميًا، سوى السيد حسن، هذه الأيام التي تبدو للكثيرين ممن ولدوا مطلع الألفية من تاريخ بعيد، كانت تمزق الشعوب العربية أربًا، كان العجز هو روح المنطقة، والهوان هو مآلها المنتظر وعنوان مستقبلها الأوحد.
والمتابع لخطابات سيد المقاومة، منذ تاريخ التحرير على الأقل، يدرك أن ارتباط أجيال كاملة، نشأت لترى الانتصارات المذهلة على الكيان الصهيوني، الذي بات واقفًا خلال العام الماضي “على أجر ونصف” لأيام طويلة، يدرك أن انتصار أيار كان حجر الزاوية لكل انتصار عسكري على الكيان، ووراء كل إرادة مخلصة تعرف أن الكيان الصهيوني إلى زوال.
لم تعد عمليات المقاومة للعدو الصهيوني في لبنان وفلسطين فدائية تبحث عن الشهادة، وفقط، بل كبر أبناء المقاومين الأبطال، يقاتلون وهم يرجون من الله الشهادة، وفي الوقت ذاته، يضعون معادلات تضمن تحقيق أمتهم النصر، وتمنحها أمل التحرير وجلال الإنجاز، مستلهمة أسمى معاني تاريخنا العربي والإسلامي الممتد، وأعظمها بعثًا على التضحية والثبات.
كان مفهومًا حالة القلق الجماعي على سيد المقاومة، وأمينها، الصوت المعبر عن تطلعات وأماني كل عربي حر، الجزع على صحة السيد الأمين لم يكن إلا ارتباطًا بشخصية أصبحت أمام وإمام كل روح عربية حقيقية، نحو غدِ ننتظر فيه صلاة في القدس، والوجع الذي يمسه، يمس كل حر في هذه البقعة من العالم، على المستوى الشخصي حتى.