أنصار الله وحزب الله : تغيير اتجاه التاريخ في المنطقة بصورةٍ مؤكدة : أكبر مفاجآت الحرب :”اليمن” تحوّل هزيمة “إسرائيل” العسكرية إلى هزيمةٍ استراتيجيةٍ!
يلعب حزب الله وأنصار الله دوراً بالغ الأهمية في فتح جروحٍ غائرة في مصالح كيان الاحتلال، لا يرجح أن يشفى منها بسهولة، وهي تؤسس لفهمٍ جديد لسيناريوهات الصراع في محطاته المقبلة.
بعد فصلٍ كاملٍ من حرب الدمار الشامل التي يشنها كيان الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة، انتهت النتائج العسكرية التي حققها إلى ما دون توقعاته بما لا يقاس. فأهداف الحرب التي وضعت، والتي كانت منذ ما قبل الحرب نهجاً إسرائيلياً دائماً، فشلت بصورةٍ كاملة وواضحة.
لم يتمكّن “الجيش” الإسرائيلي من القضاء على المقاومة الفلسطينية، ولم يتمكّن من السيطرة على المناطق التي توغل فيها سيطرةً تامة، وهو لا يزال يتلقى الضربات المباشرة والقاسية في أولى المناطق التي دخلها، وعلى الحدود بين غزة والأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948، ولم يتمكّن من استرجاع أي أسيرٍ بالقوة ومن دون تبادل، ولم يتمكّن من الوصول إلى قادة المقاومة أو قتل البارزين منهم، باستثناء بعض الكوادر الذين أعلنت المقاومة ارتقاءهم أثناء عملهم الجهادي، كما لم يتمكّن “الجيش” الإسرائيلي من إيقاف تدفق الصواريخ على مدن الداخل البعيدة من غزة.
وأكثر من ذلك، وربما الأهم، أنه لم يتمكّن من فرض إرادته على الشعب الفلسطيني ومقاومته، ولم يتمكّن من تمرير مشروعٍ سياسيٍ يعبّر عن هزيمةٍ فلسطينية بأي شكلٍ من الأشكال.
وإلى جانب كل ذلك، فشل “الجيش” ومعه المستوى السياسي في استعادة الصورة الرادعة التي كان فقد الكثير منها في الحروب السابقة، وجاءت عملية “طوفان الأقصى” لتقضي عليها نهائياً.
في غزة هكذا هي الحال. وفي الشمال، نجحت المقاومة الإسلامية في فرض معادلةٍ جديدة تحمل في ذاتها هزيمة “الجيش” الإسرائيلي مهما فعل، وتحمل ما هو أهم من ذلك (إلى جانب آثار تدخل أنصار الله اليمنيين): تحويل الهزيمة العسكرية الإسرائيلية في غزة إلى هزيمةٍ استراتيجية للكيان.
فالهزيمة العسكرية واضحة المعالم في غزة، وهي محددة في مفهومها، بأنها تعطيل أهداف الحرب الإسرائيلية، وفرض إرادة المقاومة فوق إرادة الاحتلال ميدانياً، وإيقاع الخسائر القاسية في صفوف “جيش” العدو، والحفاظ على التحكم في منظومة القيادة والسيطرة بأبعادها الأربعة إلى ما بعد نهاية الحرب الحالية. وكل ما سبق محققٌ الآن، بعد مرور ثلاثة أشهر على بداية العدوان.
أما الهزيمة الاستراتيجية، فهي تحقيق الضرر غير المقبول بقدرات العدو في المجالات الحيوية المختلفة، إلى جانب المجال العسكري، في الأمن الداخلي، والمجالات الاقتصادية والمالية المختلفة، والاجتماعية، والسكانية، والإعلامية، الموقف القانوني وفي العلاقات الخارجية…
في هذه المجالات المختلفة، يلعب حزب الله وأنصار الله دوراً بالغ الأهمية في فتح جروحٍ غائرة في مصالح كيان الاحتلال، لا يرجح أن يشفى منها بسهولة، وهي تؤسس لفهمٍ جديد لسيناريوهات الصراع في محطاته المقبلة.
فالجبهتان اللبنانية واليمنية اللتان فتحتا في وجه “إسرائيل”، زادتا الكلفة المباشرة للحرب إلى ما لا يمكن تحمّله من قبل الكيان، وبالتالي ضيّقتا أمامه هوامش اتخاذ القرارات، ووضعتاه في موقف المتلقي للأحداث، والساعي إلى الاستجابة الاضطرارية على قاعدة الحد من الخسائر، بدلاً من التخطيط المريح ووضع كل الموارد في خدمة المواجهة مع حماس والجهاد الإسلامي والآخرين، فيما لو لم تفتح جبهتا لبنان واليمن.
ساهمت كل واحدة من هاتين الجبهتين في توسيع مجالات استنزاف القدرات الإسرائيلية، وتشتيت القيادة السياسية عن التركيز على محاربة المقاومة الفلسطينية، من خلال إبقاء المخاطر عند أعلى مستوى لها أمام هذه القيادة.
الجبهة اللبنانية ساهمت أيضاً بصورةٍ فاعلة جداً ومؤكدة في ضرب قدرات “الجيش” الإسرائيلي، من خلال الاستهداف العسكري المباشر لقواعد “الجيش” الإسرائيلي ومقاره، وأفراده المتحركين، بالإضافة إلى الحد من حركة المستوطنين في الشمال.
هذا كله في البعد العسكري، أما في تحويل الكلف إلى كلف استراتيجية تؤدي غرض تحويل الهزيمة العسكرية إلى هزيمةٍ استراتيجية، فقد تمكّنت المقاومة الإسلامية في لبنان من شلّ شمال فلسطين المحتلة بصورةٍ شبه كاملة، وأفرغت مساحات واسعة منه من المستوطنين، وعطلت اقتصاد المنطقة بصورةٍ شاملة، فتوقفت عن العمل المزارع والمصانع ومراكز التكنولوجيا العالية التي تتميز بها المناطق الشمالية من الأراضي التي يحتلها الكيان.
حصّلت المقاومة اللبنانية هذا الشلل الاقتصادي الكارثي في الشمال من خلال عاملين، الأول أن قصف المقاومة أدى إلى إفراغ المنطقة من المستوطنين بعد تهديد القطاعات الإنتاجية بالصواريخ والمسيّرات، والثاني جاء بالأثر الارتدادي لنشاط المقاومة اليومي على الحدود ومن خلالها، والذي زاد من حاجة “الجيش” الإسرائيلي إلى سحب جنود إضافيين من القطاعات الإنتاجية المدنية إلى ألوية الاحتياط في “الجيش”، من أجل مواجهة المخاطر على الجبهة الشمالية، وهكذا فضلت القيادة السياسية الإسرائيلية إيفاء الحاجة الأكثر إلحاحاً، وهي التهديد الأمني الداهم، على حساب التهديد البارد، أي تراجع الاقتصاد بصورةٍ حادة، وبرود مشكلة هروب المستوطنين وعدم قبولهم بالعودة إلى مستوطنات الشمال في ظل وجود تهديد حزب الله.
وهذه النقطة الأخيرة مرتبطة بصورةٍ وثيقة بما تركته في الذاكرة عملية “طوفان الأقصى” في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر الماضي من جهة، وخيال المستوطنين الهاربين الذي يبدو أنه لا يتوقف عن تصور شكل هجومٍ أكثر ضخامةً ورعباً قد يشنه حزب الله في لحظةٍ ما باتجاه الجنوب.
هذه المعطيات، رسمت جزءاً مهماً من معالم الهزيمة الإسرائيلية الاستراتيجية التي يتشكل آخر تفاصيلها الآن.
أما جبهة اليمن، والتي يمكن اعتبارها واحدةً من أكبر مفاجآت الحرب، ولولا أن المقاومة في غزة تسطر يومياً مفاجآتٍ بطولية مدهشة، لكانت حركية اليمنيين هي المفاجأة الكبرى في الحرب الحالية.
تمكن أنصار الله من تحويل الحصار الإسرائيلي لغزة، والجرائم غير المسبوقة في العالم التي يرتكبها “جيش” الاحتلال هناك، إلى قضيةٍ عالمية مصلحية، بعد أن تحولت إلى قضية عالمية أخلاقية بفعل حرب الصورة، واستنهاض التاريخ التي خاضها الفلسطينيون ومعهم كل المتضامنين حول العالم.
وإذا كان كيان الاحتلال قد خسر الحرب الأخلاقية (واحدة من محددات الهزيمة الاستراتيجية) بمجموعة ضرباتٍ قاضية تكتيكية، وبات على طريق تدمير الصورة التي صنعتها البروباغندا الإسرائيلية منذ احتلال فلسطين، فإن الكيان يخسر أيضاً القضية المصلحية التي فرضها اليمنيون، بأن جعلوا التجارة مع الكيان خاسرةً، وعملاً محفوفاً بالمخاطر، فضلاً عن أنه عمل مشوب أخلاقياً.
تدخل القوات اليمنية في البحر الأحمر، واستهداف السفن الإسرائيلية، وتلك المتنقلة بين شواطئ فلسطين المحتلة والعالم، زاد من تسويق الجرائم التي يرتكبها الاحتلال حول العالم، وبصورتها الحقيقية، إذ جذبت أفعال اليمنيين البطولية الإعلام العالمي، ومع الاهتمام العالمي بالحرب الدائرة وأبعادها، والأسباب الدافعة لتحرك الحوثيين، وسبل معالجة الوضع الذي أنشأوه، بما يتضمن أيضاً التفكير في أحقية الموقف الفلسطيني واليمني المساند. فضلاً عن تجمد الموانئ الإسرائيلية في فلسطين المحتلة عن النشاط. وهذه كلها معالم ترسم جزءاً من شكل الهزيمة الإسرائيلية الاستراتيجية.
أبعد من ذلك، تجاوز تأثير الجبهة اليمنية تحديداً ضرب صورة الردع الإسرائيلية، ليترك آثاره على صورة الردع الأميركية في المنطقة، إذ أظهر استعداد اليمنيين لعدم التجاوب مع التهديدات الأميركية والغربية الكثيفة، حقيقةً لم تكن واضحة قبل الآن، وهي محدودية قدرة واشنطن وحلفائها على فرض إرادتهم في منطقتي بحر العرب والبحر الأحمر. إنه معطى جيوسياسي جديد في هذه المساحة من العالم، وهو معطى شديد الأهمية وبالغ الدلالة على واقع الحال ومستقبله هناك.
هذه الجزئية السالفة الذكر، والانكسارات غير القابلة للترميم في مرآة البروباغندا الأخلاقية الإسرائيلية، تؤدي إلى مستقبل مختلف لكل ما سيخرج من ماكينة صناعة الصورة والسمعة في “إسرائيل”، ونقول مرآة لأن تأثير هذه الانكسارات لم يطل نظرة العالم إلى هذا الكيان فحسب، بل طال نظرته إلى نفسه أيضاً، ونظرة مستوطنيه إليه، وانكساره أمامهم كمشروعٍ قوي وآمن، وبالنسبة إلى البعض منهم الذين لم يتعبوا أنفسهم بمعرفة تاريخ الأرض التي يستوطنونها من مصادر غير صهيونية، فإن هؤلاء الآن أمام صدمة أنهم ينتمون إلى كيان استعمارٍ ودمار شامل عنصري، ومفروض بالقوة على السكان الأصليين، وهو الآن يظهر أمامهم كماكينة قتلٍ فقط، مجردة من كل قيمةٍ وفكرة إنسانية، وهو ما لم يكن هذا البعض ليصدقه لو لم يثبته “الجيش” والساسة في “إسرائيل”.
لقد زادت بصورةٍ الأصوات اليهودية حول العالم التي تتحدث عن استفاقتها من غيبوبة التربية الصهيونية، بسبب هذه الحرب. هكذا بات فشل الاستراتيجية التي يطبقها سياسيو الكيان في غزة، حاجة لبقية العالم.
لأن نجاح استراتيجية الدمار الشامل لحل مشكلة أمنية، ومقبوليتها عالمياً، سوف يعنيان استخدامها من قبل كل دولة تمتلك قوية نارية متفوقة. وسوف يشكل ذلك خطراً على الأمن والسلم الدوليين، وسوف يفرز احتمالاتٍ كارثية على مستقبل الصراعات الكثيرة حول العالم. يكفي أن نتخيل ما يحدث في غزة، مكرراً في كل حربٍ مقبلة، لنفهم مدى خطورة أن يتم التسليم بجرائم الكيان المستمرة.
لماذا يحظر القانون الدولي انتشار أسلحة الدمار الشامل، ويدعو الدول إلى منع إنتاجها وتجارتها (قرار مجلس الأمن 1540/2004) أو استخدامها؟ ببساطة، لأن استخدامها يؤدي إلى دمار شامل ومعمم ذي آثار كارثية وطويلة الأمد على الأجيال الحالية والمستقبلية، وخصوصاً، لأنه يشتمل على عدم التمييز بين العسكريين والمدنيين في نطاق استخدامها.
إذاً، كيف يكون مقبولاً أن ترتكب “إسرائيل” الدمار الشامل بصورةٍ تدريجية على مدى ثلاثة أشهر حتى الآن؟ أسلحة الدمار الشامل ممنوعةٌ لأنها تؤدي إلى هذه النتيجة، أي الدمار الشامل، فإذا ما تحقق كما يحدث الآن، فلا فرق بأي سلاحٍ تم ذلك!
هذه المعطيات جميعها تثبت أن الهزيمة التي تتبلور الآن لكيان الحرب الدائمة تتخذ طابعاً استراتيجياً متكاملاً، وهي لن تكون هزيمةً عسكريةً فحسب، نواة هذه الهزيمة صنعتها المقاومة الأسطورية التي يسطرها الفلسطينيون في غزة، أما الأبعاد الاستراتيجية، فتمت صناعتها على حدود الجبهات الأخرى، وعلى سطوح السفن في البحر الأحمر، التي داسها حفاة اليمن الأشاوس.
بفضل هذه الجبهات، لن يستطيع كيان الاحتلال بعد اليوم أن يستفرد بحركة مقاومة بعينها، أو أن يركز جهوده على جبهةٍ واحدة، بل سيظل مسكوناً بالمشاهد التي سجّلتها في الذاكرة عملية “طوفان الأقصى” من ناحية، وبمحاولة تصور ما يمكن أن يهب من كل صوبٍ في أي مواجهةٍ مقبلة. لقد تمكنت حركات المقاومة خلال هذه الحرب من تغيير اتجاه التاريخ في المنطقة بصورةٍ مؤكدة، لأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية.
نور الدين إسكندر
الميادين