أمريكا لا تعاني من الزهايمر.. ونفط السعودية ضاع بين قبائل الكونغرس!
الحقيقة /ساهر العريبي
إعلامي-لندن
في إجماع تاريخي قلّ نظيره أسقط مجلس الشيوخ الأمريكي يوم أمس الأربعاء الفيتو الرئاسي على مشروع قانون العدالة ضد رعاة الإرهاب المعروف اختصارا ب”جاستا”. إذ صوّت 97 من مجموع 100 عضو في الكونغرس من الحزبين الديمقراطي والجمهوري لصالح القانون، ولم يعارضه سوى سناتور واحد وهو هاري ريد، زعيم الأقلية الديمقراطية في المجلس، في معارضة شكلية وفقا لعادات تقتضي وقوف زعيم نواب حزب الرئيس بجانبه، وإن كان البعض يثير شكوكا حول تمويل السعودية لطائفة “المورمون” التي ينتمي لها ريد.
هذا الإجماع بين الحزبين على رفض الفيتو الرئاسي في الكونغرس؛ عضّده مجلس النواب الذي صوّت لصالح القانون بأغلبية 80٪ من أعضائه ليصبح ساري المفعول ويفتح الباب واسعا أمام عوائل ضحايا هجمات 11 سبتمبر الإرهابية للبدء بإجراءات مقاضاة المملكة السعودية التي شارك 15 من مواطنيها من مجموع 19 إرهابيا في استهداف برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك ومقر وزارة الدفاع الأمريكية “البنتاغون” في سبتمبر من العام 2001.
صبرت أمريكا 15 عاما حتى ظنّت السعودية أن امريكا أصيبت بالزهايمر، فنسيت الهجمات، أو أن أعمالها الإنتقامية التي أعقبت تلك الهجمات سواء عبر احتلال أفغانستان أو العراق قد شفت غليلها، لكن مثل هذه القراءة الساذجة لم تنطل لا على المطلعين على السياسة الأمريكية، ولا على كل من له قليل من الإلمام في التاريخ، وخاصة في قضايا الصراع الحضاري وفي ظهور القوى الكبرى التي تسعى لبسط سيطرتها على العالم أو لتصفية حسابات مع قوى كانت كبرى في مفصل من مفاصل التاريخ، لكنها اليوم تعاني من الضعف والهوان. وكذلك غابت عن ذهن من يعتقد بأن المصالح الإقتصادية وجشع الإنسان له حدود.
استثمرت الولايات المتحدة الأمريكية ورقة التورط السعودي في تلك الهجمات خير استثمار طوال السنوات الماضية التي حافظت خلالها على تدفّق إمدادات النفط السعودي، ونجحت وبشكل كبير في استنزاف عائدات النفط السعودية عبر إبرام صفقات لبيع الأسلحة إليها، وخاصة في عهد إدارة الرئيس اوباما التي بلغت قيمة الأسلحة الأمريكية المصدرة إلى السعودية خلال فترة جلوسه في المكتب البيضاوي 115 مليار دولار أمريكي. كما وحافظت السعودية على استثماراتها في الولايات المتحدة حتى بلغت قيمة أصولها هناك مبلغ 750 مليار دولار، أصبحت اليوم كالريشة في مهب الرياح بعد إقرار القانون يوم أمس.
لم تكتف أمريكا بكل ذلك، وكان لسان حالها “هل من مزيد”! فالصفعة التي تلقتها أمريكا كانت ثقيلة ولا يمكن نسيانها أو تناسيها كما يعتقد بعض المؤمنين بنظرية المؤامرة، وأن دوائر أمريكية تقف وراء تلك الهجمات الإرهابية لاتخاذها ذريعة للهيمنة على المنطقة. كان على السعودية أن تتحول إلى رأس الحرب في مواجهة أعداء امريكا في المنطقة، وفي مقدمتهم سوريا وإيران وحزب الله وحماس وغيرها من الفصائل المناهضة للسياسة الأمريكية في المنطقة.
كانت سوريا هي ساحة الصراع التي تورّطت فيها السعودية التي القت فيها بكامل ثقلها خلف الجماعات الإرهابية، وخاصة تنظيم داعش الإرهابي، ومن ذلك الحين بدأت رحلة استنزاف سوريا وإيران فضلا عن السعودية التي فشلت وبعد مرور خمس سنوات في إسقاط الرئيس السوري بشار الأسد، لكنها نجحت في إنهاك دول المنطقة وفي تشغيل مصانع السلاح الأمريكية والروسية وغيرها. ثم جاءت الحرب على اليمن التي صدّرت خلالها أمريكا إلى السعودية أسلحة تجاوزت قيمتها ال 30 مليار دولار، ولم تخلف سوى الدمار في اليمن، وتعزيزا للإنقسامات الطائفية في المنطقة.
لم يكن كل ذلك كافيا ليشفي غليل الأمريكيين، وحينها تنازلت السعودية عن أقوى سلاح لها وهو سلاح النفط الذي أغرقت الأسواق به ليصبح سعره أرخص من الماء، فشهد الإقتصاد الغربي ازدهارا غير معهود، فيما دخلت السعودية في عصر التقشف والعجز عن دفع مرتبات الموظفين. لم تبق أمام السعودية سوى ورقة مؤثرة تلعب بها ألا وهي توطيد علاقاتها مع اسرائيل، ومع اللوبي اليهودي في أمريكا.
نجحت السعودية في تحويل بوصلة الصراع في المنطقة نحو الشرق، ولم يعد الصراع عربيا إسرائيليا بل صراعا عربيا فارسيا أو سنيا شيعيا، حتى دخلت اسرائيل عصرها الذهبي خلال السنوات الأخيره التي تحولت خلالها إلى واحدة من أكثر دول العالم قوة وتطورا، فيما عاد العرب إلى القرون الوسطى حيث النزاعات الطائفية والتخلف والجهل في وقت تتسابق فيه شعوب الأرض على نيل أسباب القوة، ولم يعد للعرب مكانة في ركب الحضارة العالمي الذي تتصدره اليوم شعوب كانت وحتى الأمس القريب فقيرة وتحارب بعضها البعض، ومنها الشعوب الأوروبية التي سارت في طريق الوحدة الذي يحول أوروبا إلى بلد واحد، فيما يعيش العرب انقسامات دينية وعرقية وقبلية داخل بلدانهم.
لكن كل تلك المحاولات السعودية للنجاة من المقصلة الأمريكية لم تنجح! والسبب وراء ذلك -إذا ما وضعنا نظرية المؤامرة جانبا – هو ضعف القراءة السعودية للمعادلات السياسية والإقتصادية في المنطقة والعالم. كانت السعودية تظن أن تلك التنازلات العظيمة التي قدّمتها لأمريكا ستعيد المياه إلى مجاريها، وأن المليارات التي تنفقها على شركات العلاقات العامة ستكون كفيلة في تحسين صورتها، وبأنها تحارب الإرهاب ولا تدعمه بل ولا علاقة لها به. لكن كل تلك المحاولات فشلت فشلا ذريعا، وأصبح الحديث اليوم علنيا عن علاقة المؤسسة الدينية الوهابية المدعومة من عائلة آل سعود بالإرهاب العالمي.
لم يفطن آل سعود لحقيقة أن أمريكا لا تقيم لهم وزنا واعتبارا، بل إنهم يشكلون عبأً عليها نظرا لطبيعة نظامهم الدكتاتوري ولإنتهاكاتهم الجسيمة لحقوق الإنسان، وأن الدعم الأمريكي لهم ليس لسواد عيونهم بل من أجل مصالح أمريكا الإقتصادية والجيوسياسية. ونسي آل سعود أن الحجاز التي يحكموها اليوم هي مهبط الوحي وموقع أول دولة إسلامية انطلقت جيوشها شرقا وغربا لتحتل مختلف أنحاء العالم وتحت ذريعة الفتوحات الإسلامية التي كان معظمها لا تهدف نشر الإسلام بل للهيمنة وسبي النساء والقتل والنهب وترويج نسخة مزورة من الإسلام في أنحاء الأرض، حتى أنتجت تلك النسخة تنظيم داعش اليوم، وقدمت نموذجا مشوها للإسلام يثير نفور العالم منه.
دفع الأمريكيون ومن خلال أجدادهم الأوروبيين ثمنا باهظا لتلك الحروب التي لم تمحها من ذاكرتهم الحروب الصليبية التي لم تقض على نظرية الصراع الحضاري. فالغرب المسيحي الذي تقوده أمريكا اليوم، وإن كان بعيدا عن المسيحية، إلا أن عيونه ترنو نحو جزيرة العرب لما لها من رمزية في الصراع. فسقوط هذه الجزيرة بيد الغرب هي نقطة تحول في التاريخ البشري ومفصل مهم في ذلك الصراع التاريخي.
لم يكن آل سعود بذلك المستوى الذي يعي تلك الرمزية ولا طبيعة ذلك الصراع، بل لم يكونوا مهتمين به، فما يهمهم هو عائدات النفط التي يتقاسمها أفراد العائلة والتي وصلت قبل انخفاض أسعار النفط إلى مستويات قياسية تجاوزت فيها حاجز المليار دولار في اليوم، لكنها ضاعت على صفقات السلاح وعلى بذخ الأمراء وفي الإستثمارات في المصارف الأمريكية.
ولم تكن السعودية تعي بأن عيون أمريكا ترنو نحو منابع النفط، فهي كنز لن ينضب في القريب العاجل. وهل هناك من سبيل لإمتلاكها سوى قاون “جاستا”؟ فهذا القانون يسمح برفع دعاوى أمام المحاكم الأمريكية ضد السعودية، وهو يمنح الرئيس الأمريكي صلاحية تجميد الإجراءات القضائية لمدة 180 يوما قابلة للتمديد وذلك لأجل السماح لبدء مفاوضات سرية لتسوية القضية. وتشير بعض التسريبات إلى أن مقدار التعويضات قد يصل إلى 3 تريليون دولار، أي ما يعادل أربعة أضعاف الأصول السعودية الحالية في أمريكا، وهو ما يعادل إنتاج السعودية من النفط لمدة 20 عاما فيما لو استمرت أسعار النفط على ما هي عليه. وأما فيما لوعادت لسابقتها فسيعادل نصف المدة أعلاه. إذن قانون جاستا سيسقط السعودية في قبضة أمريكا سياسيا واقتصاديا ولربما عسكريا.
كل ذلك يفسر إجماع الحزبين الأمريكيين على القانون، لأنه قانون اقتسام الغنائم بين الأمريكيين. وأما السعودية فليس لها سوى البكاء على نفطها الضائع بين قبيلتي الديمقراطيين والجمهوريين في الكونغرس الأمريكي!