أقرأ عن الهارب من مأرب وكراسة مكيراس
د/مصباح الهمداني
كُرَّاسة مكيراس!
الكراسة هي دفتر تلتصق به الأوراق وتسجل فيها الدروس والعظات والعبر، ولهذا كان لابد لمكيراس من كراسة، وهي مديرية تابعة لمحافظة أبين سابقا وللبيضاء حاليًا ، وهواؤها عليل، وجوها معتدل طوال السنة، ولا يكسرُ جمالها إلا أشهر الشتاء ببردها الشديد القارس، وقديمًا كان سلطانها هو العوذلي، ومازال السكان يمتدحونه وكرمه وعدله، ويذكرونه بالخير، ويتمنون عودة أبنائه، وتبعد مكيراس عن لودر بحوالي ثلاثين كم.
وكما هي أبين اليوم حبلى بالقاعدة وداعش، فلم تبخل على مكيراس، بكتائب متعددة، ولم يتردد التحالف السعوإماراتي بدعم هذه الكتائب، بأحدث ما أنتجته المصانع من سيارات ومعدلات(رشاشات)، وبوازيك ومدرعات، وطعام وبطانيات…
وتوقفت الكتائب الداعشية في مكيراس، تبني المتارس، وتحفر الخنادق، وتتموضع في رؤوس الجبال، لتنتقل جحافلها بأمان إلى البيضاء، حيث بذرة الشر تُغرس من جديد بعد ذبولها، وتُزرعُ في أرضٍ غير أرضها، عند أحرار آل عواض، تحت ذريعة قبلية، وقضية جنائية…
وكان التحالف رفيقًا قويًا من السماء، وجبانًا ذليلًا على الأرض، واستفتحَ طريقهم بضربة إجرامية على جمارك عفار، ثم أخذ يحرق الأرض أمامَ المرتزقة الدواعش، والأبالسة من القاعدة، فيتوقفون إن تأخرت الغارات، ويتحركون مع حضورها، وكأنهم “شواعة” لإيصال عروس، حتى استقروا في الجبال، وتمكنوا من التلال.
لكن للظلام ظلمة مخيفة، ولصوت الصرخة زلزلة عنيفة، ولأبناء المسيرة رهبة رهيبة، وما إن حانت ساعة الصفر، حتى خرجت الأسود من أوكارها، ورفعت في الجبال تكبيرها، وانطلق الأشبال الأباة، إلى مرابض الجبناء الطغاة، يُسابقهم الرعب، وتساندهم الريح.
ومع لعلعة الرصاص، وبدء التنكيل والقصاص؛ تصايح الدواعش ككلاب شاهدت النمور، وعلا صوتهم بأن الحوثي قد جاء بجيوش جرارة، وأصبح السباق إلى ركوب الأطقم والمدرعات، يجري بأقصى السرعات، وأضاءت أنوار المصفحات الخلفية، وهي تولي هاربة ذليلة، لكن رصاص الرماة تستوقفها، وعيون القناصين تصطادها، فلا يبقى أمام الدواعش إلا ركوب القدمين، وتشمير الساقين، وطلب النجاة من موتٍ مهين.
انقشع الغبار بعد سويعات، فيما طائرات الشيطان لا توقف غاراتها، وكشفت كاميرا الإعلام الحربي بعض الآيات، فهُنا طقمٌ جديد قد غرسوا في بطنه صخرة كبيرة، أثناء الهروب، فأبى أن يبتلعها، وتحجر مكانه، وآخر قادوه في طريق لا يجيدها، وطاروا به بسرعة خارقة، ففضَّل الانتحار، وقذف بهم واتكأ على جنبه، وآخر تجمَّد مكانه، وكأنما أصابه الرعب، كما أصاب سائقه، ومدرعة هُنا وأخرى هُناك، وخيامٌ جديدة منصوبة هنا، وأدوات طبخ هناك، وفي السهل مدرسة احتلوها وجعلوها مسكنًا لكبار المرتزقة، وزوار الدَّفع العملاء.
انقشع الغبار، على غنائم كثيرة وحديثة، وأصبح الصباح يستضيء بوجوه رضية، وتسجد الجباه الأبية، على أرض مكيراس العوذلية…
التحية لكم يا أطهر رجال الأرض، وشوامخ اليمن، ومنابر التاريخ والزمن، وأساطير الملاحم والفتن، وعنوان المجد والوطن، ولقائدكم التقي بن التقي، والقدوة العلمُ المرْضي.
“سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا”
هارب من مارب!
دعونا نستعرض اللحظات الأخيرة لأم الشر أمريكا في فيتنام، ونلاحظ التقارب العجيب، بين ما يحدث في بلادنا والخاتمة المُبشرة…
استمرت أمريكا بالقصف المتواصل على الفيتنامين، المتمركزين في الجبال، لكن الغارات لم تنفع، وكان القتل والتنكيل في المرتزقة والجيش الأمريكي يسير بوتيرةٍ عالية.
وبعد انسداد أفق الحرب؛ أعلنت دول من التحالف استعدادها للانسحاب من الحرب كأستراليا، ونيوزلاندا، وتايلاند وكوريا الجنوبية، والفلبين، لكن أمريكا واصلت قصفها بكبرياء، ولم تلتفت لنصائح الحلفاء، وزادت عدد جنودها حتى بلغ العدد 525ألفاً.
فيما أعد الأحرار الفيتناميون الخطة تلو الخطة، ووضعوا حوالي مائة هدف، في خطة أسموها “تيت”، ونكلوا بالمرتزقة والجيش الأمريكي أشد التنكيل، حتى أنهم وصلوا إلى عاصمة الجنوب “سايغون”، ووصلت جنائز الجنود الأمريكيين بشكل كبير ومستمر، فخرجت المظاهرات العارمة في أمريكا، وأحرقت المحلات ، وأشعلت الإطارات، مطالبة بوقف الحرب.
وقام الرئيس الأمريكي جونسون، بمحاولة الضحك على الثوار الأحرار بالمناداة للمفاوضات، وبرهن على جديته بسحب 25ألف جندي، لكن الثوار لم يبلعوا الطُّعم، واستمروا في قصف الغازي ومرتزقته.
وازداد الأمريكي وحشية، وأصبح يقصف مرتزقته إذا اشتبه فيهم، كما فعل الملازم “وليام كالي” وجنوده، عندما اقتحموا قرية “لاي” وقتلوا أهلها المدنيين، من النساء والأطفال بطريقة بشعة…
كل هذه الجرائم كانت تزيد الأحرار إصرارا، وتزيد المرتزقة انحطاطا وانحدارا، وهاجم الثوار الأحرار منطقة “كانغ تري”، وجزروا من الغزاة الأمريكيين ومرتزقتهم أعدادًا غفيرة، فيما قامت الطائرات الأمريكية بالقصف العنيف، وسقطت لها في هذا القصف 15 طائرة، وقُتل 93 ضابطًا أمريكيًا من سلاح الطيران…
واستمر الأحرار في ملاحقة الأمريكان ومرتزقتهم، وفي مارس 1973 انسحبت أمريكا، تجر آخر جنودها، بعد هزيمتها المنكرة؛ تاركة مرتزقتها للتشرد والمصير المجهول، ولم تسمح لهم بالهروب معها، أو نقلهم بطائراتها…
واليوم هناك خبر مؤكد، يشير إلى أن أمريكا والسعودية، سحبتا ضباطهما وجنودهما، من مارب، بعد أن شاهدا ألسنة اللهب تلتهم جنودهم وآلياتهم ومرتزقتهم ليلًا ونهارا.
أمريكا والسعودية تنسحبان فيما الخناق يضيق، وكأني بمرتزقة الريال، يردون إلى نفس مصير مرتزقة فيتنام.
فهل يعتبر المرتزقة قبل فوات الأوان، ويطلبوا العفو والسماح والغفران، قبل التشرد والضياع والذل والهوان ، وهل يلتحقون بمن سبق من التائبين، قبل أن يتخلى عنهم الملك اللعين، كما تخلى الناقص المهين…
وما أجمل المثل الفيتنامي:
” الثيران التي ترِدُ متأخرة، تشربُ المياه العكرة”