أطفال اليمن وقصّة القلم..
الشعر ، الثقافة، الانفتاح، الثورة ، الوحدة ، الأطفال والقلم… هكذا كان يرتسم مستقبل اليمن ذلك العام
الشعر ، الثقافة، الانفتاح، الثورة ، الوحدة ، الأطفال والقلم… هكذا كان يرتسم مستقبل اليمن ذلك العام
توقِف السيارة ، فيتقدّم منك بضعة أطفال مُتسوّلين. تنتظر أن يطلبوا كما يطلب أمثالهم ، لكنهم يقولون بتكرار : قلم، قلم!! يعرض عليهم رفيقك شيئاً اخر فيقولون: نريد أقلاماً…
كان ذلك عام 1989 ، أول علاقة لي باليمن : لقاء الشعر العربي الإسباني في جامعة صنعاء ، يرعاه اليونسكو. ويديره أدونيس عن المنظمة الدولية والشاعرعبد العزيز المقالح رئيس جامعة صنعاء وعميد الاستعراب الإسباني المعاصر بدرو مارتينيز، صاحب “القصيدة هي فلسطين” وكارمن رويز برافو، أستاذة كرسي الأدب والفكر العربي المعاصر، ومترجمة فدوى طوقان. ومعهم كبار الشعراء ( والشاعرات) والنقّاد العرب من جميع الدول وأمثالهم من الإسبان…. المضيفون اليمنيون يبهرون بمدى احترامهم للشعر والثقافة وبينهم ثلاث شاعرات جميلات شابات. ثمة جو لا يخفى على أحد: توق وتصميم القيّمين على الثقافة إلى عملية انطلاق وتحديث للمجتمع اليمني. خاصة بعدما نجح عبد العزيز المقالح في فتح أبواب الجامعة للنساء ، وتدفقن بحيث كاد عددهن يفوق الشباب. وفتحت فروع أخرى للجامعة في أكثر من مدينة يمنية.
قصيدة أدونيس ” المهد” على شفاه الجميع ، والإسبان المشاركون يؤكّدون عبرها ، بحماس، أنهم هنا في المهد…. والمقالح: “لا بد من صنعاء، وإن طال السفر”. لا بد من زيارة البردوني الذي كنت قد تعرّفت إليه عندما دعوناه إلى مهرجان جرش للثقافة، وجاء بصحبة زوجته المستشارة في إحدى الوزارات وافجا بان الشاعر الضرير يعرفني من صوتي.
وزارة الثقافة تقرّر اصطحابنا إلى “حجة”، والطريق الحلزوني الجبلي الطويل والجميل يقود إلى موقع يقال أنه كان باستيل الثورة اليمنية. لا، هذا كان سجناً ولكن الباستيل الحقيقي كان هناك في الأسفل يقول مرافقنا، شاعر الثورة، إبرهيم الحضراني، رجل أنيق هادىء في السبعين، يسير بخطى شباب من مكان إلى مكان في الموقع، ويؤشّر : هنا كنت، من هذه البركة ( القذرة) كنا نشرب ونستحم ، هنا أعدم فلان في اليوم الفلاني والساعة الفلانية. هكذا كانت القيود والأغلال وهكذا كنا نسير …يسرد العذابات من دون أية لمحة ألم. “عندما تنتصر ثورتك تنسى كل عذاباتك…حررنا اليمن من الطغاة وها نحن نوحدها”
يلحق بنا الأطفال. نفاجأ أنهم يعرفون الحضراني ويكرّرون طلب الأقلام.
عدت إلى البلد كثيراً، حتى أصبحت منه، يعرفني الجميع من الشمال إلى الجنوب، في المرة الأولى، عام 1991عشت أزمة طرد السعودية لنصف مليون عامل يمني إثر تضامن اليمن مع العراق. ما يعني نصف مليون عائلة. لكن ذلك كان يقابل في الشارع بأمر واحد: التحدي والإصرار على الوحدة.
أنجزت ثلاث عشرة ملفاً صحافياً عن الخريطة السياسية اليمنية، وفي ما بعدها أشرفت على ستة عشرة فيلماً وثائقياً عن اليمن: شخصيات: يحيى العرشي ( وزير الوحدة) ، عبد العزيز المقالح ( الشاعر والمصلح رئيس الجامعة) ، أحمد المروني ( واحد من رجال الثورة ومن أول بعثة عسكرية للدراسسة في الخارج وأول الدبلوماسيين)، والعملاق المتمرّد، عبد الله البردوني . أمة العليم سوسوة، بلقيس الحضراني، رؤوفة حسن…. كلهم تحوّلوا إلى اصدقاء حميمين، أتردد على مجالسهم ( المقيل) حيث تعلّمت، منذ كنت أعد ملفاتي الصحافية، إن افضل وسيلة للقاء من تريد، من دون موعد، هي الذهاب إلى المقيل الذي يتواجد فيه، فهذا للشعراء والكتاب والمثقفين اليمنيين والعرب ، وهذا للمفكّرين السياسيين، وهذا للبردوني ومريديه، وهذا للبعثيين وهذا للناصريين وهذا لحزب الإصلاح الخ…
الصداقات الأحلى هي تلك التي نسجتها مع الناس كل الناس عبر الأفلام التي تناولت ذاكرة الأمكنة، أسابيع من البحث في المراجع ومع الناس وفي المكان ومن ثم التوثيق ومن ثم التصوير بما فيه من تعاون وشهادات، تجعل العلاقة بينك وبين المكان علاقة استثنائية في عمقها وحميميتها. خاصة عندما يعبق بذاكرة تاريخ منقطع الثراء وغير منقطع في الزمن. ذاكرة في مقدمتها فيلم طويل عن متحف صنعاء، أي سجل هائل! كيف تلخص عُمراً حضارياً باذخاً في ساعة؟ كيف تجمع مراحل، ممالك، شخصيات، مجسّمات، أساطير، كتابات، في عرض واحد ؟ أشهر من البحث والتقصي مع المختصين والتطبيق العملي قبل أن تتمكن وضع خطتك. وقبل أن تدرك ما عمق هذه البلاد وحضارتها. ولماذا هي المهد.
لعده تأتي التفاصيل الحيّة، من أسواق صنعاء، محمية اليونسكو، إلى سمسراتها التي تحوّلت كل منها إلى مركز حي معاصر، من دون أي تغيير في الأصل: لكل منها فيلمه: سمسرة الأوراق المالية مركز للفن التشكيلي ، سمسرة النحاس للحرف اليدوية وسمسرة أخرى للمرأة وحرفها وتوقها المتقد إلى التحرّر الحقيقي: رئيسته خاضت الانتخابات وتفخر بأن زوجها كان يعلّق يافطاتها. إلى دار الحجر وقرية وضّاح وفريق ترميم يضم خبيرات أجنبيات يعملن بالشورت وتحت سطوع الشمس على نقش الحجر، بالخصوصية اليمنية. للترميم أيضاً خصصت فيلماً ساعدني فيه أخصائي إيطالي جاء اليمن للعمل فعشقها وتزوّج واستوطن واشترى أحد قصور الامام ليحوّله إلى فندق سياحي تراثي. في الجنوب شواطىء عدن المذهلة ، وصهاريجها التاريخية التي حاول الإنكليز ترميمها فلم يعرفوا سرّها وخرّبوها.
في عام 97 أُنهي رحلتي بفيلمين طويلين عن صنعاء وعن عدن. ثمة ما يعتصر القلب هذه المرة، فقد عشت تجربة حرب الانفصال وإعادة التوحيد، بكل أخطائها وكل ما تضمّنته من دعم خليجي ( سعودي إماراتي) للانفصال، و قسوة شمالية في قمعه ( ودعم قطري). ومن تخلٍ وخيانة.
خلال سنوات كتبت ما يزيد على مئتي مقال عن اليمن. ولكنني لم أكتب في الحرب الأخيرة. كان ثمة كرة حارقة في الحلق، عجز عن التعبير.
لا يمكن أن تعيش هذه البلاد ولا تعشق أصالتها التي لا تجد ضيراً في الالتحاق بالمعاصرة بناء على حداثتها الخاصة المبنية على خصوصيتها. ولا أن تعشق غناها الحضاري الذي لا تحمله الأرض فقط بل وروح كل إنسان تتعامل معه . غنى يجعل من ناسها ذوي فخار كبير وعزّة حقيقية. لا يرون في أنفسهم إلا المهد. ولا ينظرون إلى الدول الثرية التي تحيط بهم إلا نظرة الأصيل إلى حديث النعمة.
تمازحهم ، أبو ماذا فيقولون: أبو يمن. وتسألهم عن تقليد معين وارتباطه بالدين فيردّون: تقاليد يمنية. ويرفضون الألقاب فرئيس البلاد: علي، والوزير: يحيى، والزعيم: فلان… وأنا حياة … اللقب الوحيد الذي قد يستعملونه: دكتور !!! وقد يمنحونك إياه إذا رأوا فيك علماً، حتى ولو لم تكن تحمله.
أسأل الشيخ عبد الله الأحمر: يقولون إنك تتلقى تمويلاً من السعودية، فيرد: من حين لحين ألتقي “الأخ فهد”!!! الأخ وكفى ولا “يعيّش أحداً” !!
كبرياؤهم هذا يحمّلونه لأطفالهم، حتى إذا تسوّلوا تسوّلوا قلماً… وهو ما يقع على رأس استهدافات الحرب عليهم، كَسْر الكبرياء، تدمير الرُباعي الخطير: الثورة – الوحدة – الحضارة – الكبرياء. فإن استعصى عليهم الكبار، جوّعوا الأطفال وتركوهم للمرض كي يحقّقوا مستقبلاً ما عجزوا عنه في الحاضر.