أطفال اليمن نفسية محطمة ومستقبل مظلم
سبأ : مركز البحوث والمعلومات: زيد المحبشي
الحروب لا تدمر البلدان والمدن فحسب، لكنها تدمر النفوس أيضاً، حقيقة مؤلمة تلخص الواقع المرير الذي يعيشه أطفال اليمن، وما خلّفته سنوات الحرب والعدوان السعودي الإماراتي الظالم من آثار كارثية على حياتهم ونفسياتهم، وهذا هو المسكوت عنه في كل الحروب الكونية، لكنه في اليمن أكثر بشاعة ومأساوية، وهنا يكمن الخطر، في ظل صمت دولي مُخجل.
فالعدوان العبري الغاشم لم يرعى حُرمة لشيئ، ولم يكتفِ بتدمير اليمن من مؤسسات وبنية تحتية، وقتل اليمنيين بلا رحمة ولا تفريق ولا تمييز بين مقاتل ومدني أعزل وطفل وامرأة وشيخ طاعن في السن، وحرق الحجر والشجر، بل وأمعن في تدمير نفوس وأحلام أطفال اليمن، الذين لا يعرفون الحقد والكراهية، ولا يعلمون لماذا دُمِرت بيوتهم، وقُتل أحبتهم، وشُردوا في الفيافي والقفار والأمصار، مما أدى إلى إصابتهم وهم يشاهدون الأشلاء والدماء والخراب والدمار، ويهيمون على وجوههم ذات اليمين واليسار بحثاً عما يسد رمقهم بعد أن مات الكافل والُمعين، باضطرابات وأمراض نفسية وعصبية، يقول علماء النفس أن آثارها ستبقى لفترات طويلة حتى لو انتهت الحرب، بما لذلك من تبعات خطيرة على حاضر اليمن ومستقبل أجياله، في جريمة ممنهجة ومتعمَّدة ستظل وصمة عار في جبين المجتمع الدولي والأمم المتحدة والمنظمات الدولية المعنية بحقوق الإنسان والطفولة بوجه خاص لسنوات قادمة.
الدكتور المختص في الطب النفسي “محمد الأشول” في تقييمه للآثار المدمرة للحرب والعدوان على الجوانب النفسية سواء للفرد أو الأسرة أو المجتمع، يؤكد بأن التغيرات والضغوط الاجتماعية والنفسية والتعرض للقصف وتدمير البنية التحتية وفُقدان الأحبة والأصدقاء ومشاهد العنف والقتل والجثث، ستترك آثاراً في أذهان ووجدان أفراد المجتمع خاصة الفئات الأكثر عُرضة مثل الأطفال والنساء.
مؤكداً رصد ارتفاع مخيف في معدلات الأمراض النفسية كالقلق والخوف والاكتئاب والإدمان وانتكاس الحالات المرضية السابقة بفعل العدوان، خاصة الأطفال، الذين لُوحظ تأثير أصوات القصف والصواريخ عليهم، وإحساسهم بالرعب، مما أدى الى ارتفاع حالات القلق في أعمار صغيرة مع التبول الليلي وتدهور المستوى الوظيفي وانعزال الطفل – الانطواء والانكفاء والتوحد – وعدم قدرته على النوم في الليل.
هذه الاثار النفسية للأسف سوف تكون لها تداعيات مستقبلية على الأطفال، وحتى البالغين: وستمتد لعدة سنوات، حتى بعد توقف الحرب، وبعضهم سيظل يعاني طوال حياته، خاصة مع استمرار الحرب، والتوقع بارتفاع عدد الحالات نتيجة ذلك.
ومن أهم الآثار النفسية والعصبية التي تظهر لدى شريحة الأطفال بسبب الحروب، وفقاً للدكتور محمد النعماني: الفزع الليلي، والقلق والشعور بعدم الراحة، والفوبيا أو الخوف من الأصوات والظلام، والانتكاسة في بعض المهارات التي تم اكتسابها، فيظهر التبول اللاإرادي، أو الزيادة في التبول، وظهور بعض الاضطرابات السلوكية مثل قضم الأظافر، والكذب – والرغبة في الانتحار والتراجع في المستوى التعليمي والإصابة بحالة من التبلد – وظهور مشكلات في الكلام، كالتلعثم أو الفقدان الوظيفي للكلام، واضطرابات الأكل.
وفيما يتعلق بالحالات التي يتعرض لها الأطفال خلال الحروب، تذكر أخصائية الطب النفسي الدكتورة نعمة البدراوي: سوء التغذية في المناطق الفقير، والمرض، والتشرد، واليتم والفواجع، والمشاهد العنيفة، والإرغام على ارتكاب أعمال عنف، والاضطراب في التربية والتعليم.
ويصنف علماء النفس الصدمة النفسية التي تتركها الحروب لدى الأطفال في باب الآثار المدمرة، وهذا الآثار جعلت الخبراء والمختصين يقومون بالدراسات المستفيضة وتحليلها للوصول إلى نتائج تساعد على بذل كل الجهود من أجل الحد من تبعاتها الكارثية، والعمل على مراعاة الأطفال في زمن الحروب، وإيوائهم وتأهيلهم، وإبعادهم قدر الإمكان عن الآثار النفسية والمعنوية التي يمكن أن تلحق بهم.
صور مرعبة خلفتها سنوات العدوان العبري، تسببت في زيادة حالات الإصابة بالأمراض النفسية بين الأطفال، إما بشكل مباشر كالتأثر بمشاهدة دماء الأشلاء أو المعاناة من رُهاب سماع أصوات الغارات والانفجارات، أو عن طريق الانفصال عن الأسرة وموجات النزوح والعنف والاستغلال الجنسي.
ومن تلك الصور كنموذج بسيط من آلاف النماذج المأساوية حالة الطفلة “آية قاسم” البالغة من العمر ١٠ سنوات، تسبب مشاهدتها لقصف طيران عدوان العاصفة لمنزلها، أثناء عودتها من المدرسة في فقدانها النطق، والإصابة بانهيار عصبي وهستيريا شديدة.
ويرى رئيس قسم عدالة الأطفال في إدارة الحماية الاجتماعية، الدكتور “رضوان الشرجبي” أن أمراضاً مثل فقدان النطق والهلوسة السمعية والبصرية وكرب ما بعد الصدمة والاختلالات العقلية، نتائج متوقعة خلال فترة الحرب، مؤكداً استقبال إدارة الحماية الاجتماعية نحو ١٢٠ حالة شهرياً، وهي إدارة تهدف إلى إعادة تأهيل المرضى النفسيين ودمجهم بالمجتمع.
وفي دراسة مسحية أجرتها الباحثة بمركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية، الدكتورة “فوزية العمار” خلال العام الدراسي 2015 / 2016، أي خلال العام الأول من العدوان، شملت 902 حالة من الأطفال النازحين في المدارس الحكومية بأمانة العاصمة صنعاء، تفاوتت أعمارهم بين 8 – 18 عاماً، مستخدمة مقياس أعراض اضطراب ما بعد الصدمة لدى الأطفال Child PTSD Symptoms Scale CPSS، بعد مواءمته وتكييف فقراته مع البيئة اليمنية، بلغت نسبة المعاناة النفسية للأطفال من اضطرابات ما بعد الصدمة نحو 79 % بواقع 712 طفل من العينة المختارة، وهي نسبة مرعبة.
وتبرز هذه الاضطرابات في معاناة ذهنية تتمثل في:
1 – تكرار الذكريات المرتبطة بالصدمة
2 – اضطرابات الإعياء النفسي والإجهاد الانفعالي
3 – ضعف القدرة على التعبير وإبداء مشاعر الحزن ومشاعر الفرح
4 – اضطرابات النوم والأحلام المزعجة
5 – الشعور بالإحباط وضعف القدرة على التركيز
6 – تدني التحصيل الدراسي للأطفال
7 – ظهور مشاعر الخوف وتجنب الأماكن والأشياء المرتبطة بالتجربة المسببة للصدمة.
وفي دراسة نشرتها مؤسسة التنمية والإرشاد الأسري في العام 2018، تناولت الفئة العمرية ما فوق 16 عاماً وكبار السن من كافة محافظات اليمن، وحازت أمانة العاصمة صنعاء نسبة مشاركة عالية ضمن العينة بواقع 59.2 %، خَلُصَت الى تجاوز عدد المصابين بحالة من حالات الاضطرابات النفسية والعصبية التي تسببها الحرب، عتبة الـ 5 ملايين يمني، بينهم آلاف الأطفال، ووجدت أن انتشار الاضطرابات والضغوط النفسية ظهر أكثر لدى الفئات العمرية الأصغر سناً عما هو عليه لدى الأفراد من ذوي الفئة العمرية الأكبر سنّاً، ومن حيث الجنس كانت النساء أكثر عُرضة للإصابة بالاضطرابات النفسية بواقع 81 %؛ يعني تسبب العدوان باصابة اكثر من 5 ملايين يمني بالامراض النفسية، هم الان بحاجة ماسة لاعادة التأهيل.
وكانت نسبة المصابين من الأطفال باضطرابات القلق 3.25 %، مقابل 2.3 % يعانون من الاكتئاب، و0.7 % من الاضطراب المرتبط بالصدمات، وفيما يتعلق بالفئات العمرية وجدت الدراسة أن 19.5 % ممن يعانون من الاضطرابات النفسية أعمارهم تتراوح بين 7 – 10 سنوات، و16.8 % أعمارهم بين 16 – 18 سنة.
وتشير دراسات متفرقة الى معاناة نحو ٤٠ % من السكان من مشاكل نفسية، مثل الاكتئاب ٢٠ %، وكرب ما بعد الصدمة ٣٠ %.
وعن الأعراض تذكر دراسة أعدتها منظمة يمن لإغاثة الأطفال، أن أطفال صنعاء وعدن وتعز وأبين، أبانوا عن ارتفاع مهول في مشاعر الخوف وانعدام الأمن والقلق والغضب، حيث عانى 31 % أعراضاً جسدية منها الصداع وآلام الصدر والبطن والإرهاق، وهو ما اعتبرها الباحثون مؤشرات على وجود ضائقة نفسية.
ولاحظت الدراسة تمايزاً واضحاً في شدة الأعراض النفسية بين المحافظات، يعادل تقريباً كثافة النزاع في مختلف المناطق.
وعند تقييم حالة الأطفال، وجدت الدراسة بناءاً على إفادة أولياء الأمور، أن 5 % من الأطفال يعانون من التبول اللاإرادي، و2 % عادوا إلى التأتأة، و47 % يعانون من اضطرابات النوم، و24 % لديهم صعوبة في التركيز، و17 % يعانون من نوبات هلع.
وبلغت نسبة المترددين على المستشفيات ممن يعانون من الصداع وآلام الظهر والمفاصل وقرحه المعدة والقولون والربو وغيرها من الأعراض الجسدية التي سببها القلق والضغوط النفسية بحسب دراسات متفرقة نحو 70 %.
وتذكر دراسات مسحية في العام 2018 أن هناك نحو 21988 طفلاً يمنياً، يصابون بالرعب يومياً بسبب سماع أصوات الغارات والانفجارات.
وأجرت منظمة save the childern الدولية، وهي من المنظمات العاملة في مجال تحسين حياة الأطفال، دراسة واستطلاع لآراء 1250 من الأطفال وأولياء أمورهم في اليمن، وكانت النتائج صادمة، فقد تبين أن 50 % من الأطفال يعانون من مشاعر الاكتئاب والحزن الشديد، و20 % يعيشون في خوف مستمر، و1 من كل 10 أطفال يعانون من الحزن والاكتئاب، ووضح الأوصياء أن أطفالهم ظهرت عليهم مشاكل مرتبطة بسوء التغذية والصداع الشديد والكوابيس المستمرة والتبول اللا إرادي، واضطرابات في الصحة النفسية، والاكتئاب الشديد، وكرب ما بعد الصدمة.
وأوضح مديرها التنفيذي “إنغر أشينغ” أن الأطفال الذين تم التحدث إليهم خائفون من اللعب في الخارج، وأنهم يتبولون في الفراش عندما يسمعون طائرات تحلق في سماء المنطقة، أو قنابل تتساقط، متمتماً: هذا ما تفعله خمس سنوات من الحرب على الصحة النفسية للأطفال، ولا يمكننا السماح باستمرار هذه الحرب، دون أن يوضح الطريقة التي سيتم من خلالها إيقاف هذه المذبحة البدنية والنفسية والعصبية البشعة بحق أطفال اليمن، والتي سبق لمنظمة اليونيسيف في العام 2018 القول بأنها تمثل وصمة عار في جبين المجتمع الدولي.
وأكد تقرير صادر على مشروع “يورجن” أن الترتيبات السكانية في اليمن تأثرت بشدة، بسبب الحرب، إلا أن الأطفال يتحملون وطأة هذه الحرب، فقد سُجلت نسبة كبيرة من الأطفال الذين استهلكت الحرب صحتهم النفسية، وأصيب الشباب والشابات بحالات من البؤس والاكتئاب، فتركوا مدارسهم وجامعاتهم، وتدنى أداؤهم الدراسي والأكاديمي نتيجة العجز المادي للأسر، والشعور بضعف قدراتهم الفكرية، وعدم قدرتهم على التركيز في الدرس، وضعف القدرة والرغبة في التحصيل العلمي.
وتعظم الكارثة مع قلة وندرة المشافي والمراكز الصحية المختصة بالعلاج النفسي، ونُدرة الأطباء المختصين في هذا المجال، حيث تذكر منظمة save the childern الدولية، وجود طبيبان فقط في الجمهورية اليمنية مختصين في الصحة النفسية للأطفال، وممرضة واحدة لكل 300000 طفل، بينما تحدثت مؤسسة التنمية والإرشاد الأسري، عن 44 طبيباً نفسياً فقط، موزعين على 4 مستشفيات للصحة النفسية في اليمن، تتمركز في 4 مدن رئيسية، هي: صنعاء وعدن وتعز والحديدة، ما يشير إلى حجم المعاناة الإنسانية لليمنيين.
وهو ما دفع أخصائية علم النفس في جامعة “نورث وسترون”، الدكتورة “كارول دونيلي”، الى التحذير من تفاقم مشكلات الصحة النفسية للأطفال في اليمن: مع عدم وجود حلول لمعالجة هذا الأمر، سنواجه “جيلاً كاملاً من الأطفال المصابين بصدمات نفسية شديدة”، ويكونوا مجرد عبء على المجتمع بأسره.
ويزداد الوضع قتامة بحسب منظمة يمن لإغاثة الأطفال، لأن: الخطر الحقيقي في الجانب النفسي للأطفال سيظل مجهولاً حتى بعد انتهاء الحرب والعدوان، والخطر هنا يكمن بحسب مدير برنامج الصحة النفسية بوزارة الصحة بصنعاء الدكتور “عبدالقدوس حرمل”، في أن: نتائج هذه الأمراض والاضطرابات لدى الأطفال لن تظهر إلا على المدى البعيد، وهو ما يشكلُ كابوساً مقلقاً على مستقبل الاطفال والبلاد.