أسرى غزة بعد 7 أكتوبر يروون تفاصيل اعتقالهم ولحظات الإفراج عنهم
في يوم السابع من أكتوبر 2023، وبعد بدء العدوان البري في السابع والعشرين من الشهر نفسه، اعتقل الاحتلال مئات الفلسطينيين من قطاع غزة في قواعد عسكرية أنشأها بعد اندلاع الإبادة.
وخلال الحرب، كشف تقرير لصحيفة “هآرتس” العبرية عن استشهاد 48 فلسطينيًا تحت التعذيب والتنكيل، معظمهم أسرى تم أسرهم في قطاع غزة، من بينهم 36 معتقلا في “سدي تيمان”، كما روى معتقلون تفاصيل لاعتداءات جنسية بشعة تعرضوا لها في مركز التعذيب تسببت في مضاعفات صحية خطرة لعدد منهم، فيما لقي أحدهم مصرعه بسببها.
اليوم، تلتقي “شبكة قدس” مع عدد من الأسرى المحررين من ضمن 222 أسيرًا فلسطينيًا من قطاع غزة من معتقلي بعد 7 أكتوبر، أفرج عنهم الاحتلال خلال الدفعة الرابعة والخامسة من صفقة طوفان الأحرار، مقابل إفراج المقاومة الفلسطينية عن اثنين من الأسرى الإسرائيليين من المرضى والجرحى، وتسمع منهم قصصهم.
أحمد جنيد
أحد هؤلاء الأسرى، الأسير المحرر أحمد جنيد (37 عامًا) من سكان جباليا البلد شمال قطاع غزة، الذي يستذكر لحظة أسره بالقول: “تم اعتقالي في 21 ديسمبر 2023 من مدرسة بنات جباليا الأساسية، حيث كنا نازحين بعد أن استهدفت قوات الاحتلال منزلنا بقذيفة أسفرت عن استشهاد سبعة من أفراد عائلتي وعائلة مطوق”.
في أعقاب هذا الاستهداف، اضطر جنيد وعائلته للنزوح إلى مدرسة إيواء، لكن الجنود الإسرائيليين أجبروا النساء والأطفال على مغادرة المدرسة، بينما اعتقل الرجال وكبار السن، وأخضعهم للتحقيق القاسي، وكان جنيد من بين المعتقلين.
ويروي جنيد لـ “شبكة قدس”: من أكثر ما أثر علينا نفسيًا كان أسلوب الاحتلال في التلاعب بمشاعرنا، ففي إحدى المرات، جمعنا الاحتلال في حافلة وسار بنا إلى معبر كرم أبو سالم، حيث ظننا أنه سيتم الإفراج عنا ولكن الجنود أعادوا الحافلة إلى السجن، مما تسبب في انهيارنا نفسيًا.
أما داخل السجون، يضيف الأسير المحرر: “كانت الظروف بالغة القسوة، ففي الشتاء البارد، كانت الكهرباء والمياه الباردة تزيد من معاناتنا”، لافتا إلى أنه تنقل عدة مرات بين السجون، كان أقساها عندما مكث شهرًا ونصف في سجن نفحة العسكري بالنقب المحتل، ومن ثم نقله إلى قاعدة “زكيم” ثم سجن النقب.
في سجن النقب، تعرض أحمد لأشد أنواع التعذيب، بما في ذلك إجبارهم على الاستحمام جماعيًا، مع كميات طعام شحيحة بالكاد تكفي للبقاء على قيد الحياة، ونتيجة لسوء التغذية، فقد العديد من الأسرى وزنهم بشكل كبير، حيث فقد البعض من 30 إلى 50 كغم.
ويستذكر أحمد: كان شهر رمضان في السجون قاسيًا للغاية، كنا نفتقد معرفة مواقيت الصلاة، ولم نتمكن من أداء الفرائض بحرية، تعرضنا للتعذيب كلما حاول أحدنا الصلاة، ولم نتمكن من لمس المصحف الشريف إلا بعد شهور من المطالبة المتواصلة.
ويوضح: “الاحتلال كان يوقظنا صباحًا في رمضان، عبر تشغيل الأغاني الصاخبة والرقص أمامنا، وكنا في عزلة تامة عن العالم، لا نعرف أي شيء عن الأخبار أو الأحداث في الخارج.”
ويشير أحمد إلى تعرضه لجولات من التحقيق والتعذيب الجسدي، بما في ذلك الصعق الكهربائي وإطفاء السجائر على جسدي، كما تعرض لتهديدات عديدة، منها تهديد المحققين بهدم منزله إذا لم يقبل بالتعاون معهم.
ويوضح: “في إحدى جلسات التحقيق، سألني المحقق عن عملي، وأخبرني أنه إذا عدت للعمل مع الحكومة في غزة، فسيقوم بنسف منزلي بالكامل”، موضحًا أنه عندما تم الإفراج عنه، اكتشف أن منزله لا يزال قائمًا، لكنه أدرك أن الاحتلال استخدم صورًا مزيفة لصور منزل مدمر أثناء التحقيق.
وقبيل الإفراج عنه، خضع جنيد لجلسة تحقيق مع مخابرات الاحتلال، قبل أن ينقلوه إلى قسم جديد: “تفاجأنا بوجود أسرى آخرين، من الضفة الغربية وكانوا ضمن قائمة الأسرى الذين سيتم تبادلهم في صفقة، رحبوا بنا، وهم من أخبرونا أننا على قائمة التبادل.”
ويتابع: “عند الساعة الحادية عشرة مساءً، نادى الجيش على أسمائنا وقيد أيدينا وعصّب أعيننا، ثم نقلونا عبر شاحنات الجيش إلى معبر كرم أبو سالم، ومن هناك إلى المستشفى الأوروبي، في المستشفى، وأجرينا فحوصات طبية.”
وعند الإفراج عنه في جنوب قطاع غزة، لم يجد جنيد فردًا من عائلته التي كانت في شمال غزة، وكانت المواصلات شبه مستحيلة، ومن غير المسموح بالعودة جنوبًا عبر “نستاريم”، ما اضطر جنيد للانتظار ساعات حتى تمكن من تأمين مواصلاتٍ إلى الجسر في وسط قطاع غزة، واضطر حينها للمشي مسافة طويلة وصولًا إلى مركبة أجرة، ووصل منزله الساعة 9 التاسعة مساءً.
بعد عودته، وجد جنيد عائلته مجتمعة أمام منزل والده، والتقى بزوجته وأطفاله، واحتضن ابنته ضحى وجنان وأبناءه فريد وثابت، واحتفل الجميع بعودته بالأناشيد والفرح، ويصف: “كانت لحظة لا تُنسى، مليئة بالأمل رغم كل ما عانيته في السجون”.
وتتضمن المرحلة الأولى من اتفاق وقف إطلاق النار بين المقاومة الفلسطينية وحركة حماس إطلاق سراح 30 أسيرًا فلسطينيًا مقابل كل أسير إسرائيلي مدني، وبمقابل كل جندي إسرائيلي، سيتم إطلاق سراح 50 أسيرًا فلسطينيًا، منهم 30 محكومين بالسجن المؤبد و20 محكومين بأحكام عالية.
عنتر الآغا
كان يومًا عاديًا من أيام الحرب، عندما دخلت قوة خاصة من الاحتلال إلى منطقة المواصي في غزة، حيث كان عنتر الأغا (33 عامًا)، وهو أحد المدنيين النازحين، يقيم هناك مع عائلته، ولكن حياتهم في النزوح تغيرت فجأة عندما اقتحمت القوة العسكرية المنطقة.
يروي أستاذ اللغة العربية عنتر الآغا لـ “شبكة قدس”، تلك اللحظات: “لم ندرك أنفسنا إلا بدخول مجموعة من جنود الاحتلال إلى المنطقة الإنسانية الآمنة في المواصي، في الثامن من فبراير\شباط 2024، واعتقلوني منذ تلك اللحظة.”
وحول ظروف اعتقاله، يقول الآغا: “كانت قاسية للغاية، حيث تعرضت للتعذيب النفسي والجسدي، وتم نقلي إلى سجن النقب في ظروف صعبة، كما عانيت من مرض السكايبوس، الذي نهش جسدي من كثرة الحكة فلم أعد أستطيع النوم مطلقًا، ولم أحصل على العلاج الكافي خلال فترة احتجازي، وكنت أعاني من الإهمال الصحي المتعمد.”
يصف الآغا نفسه بأنه شخص قوي، رغم ما مر به من مواقف قاسية، إيمانه بالله كان مصدر قوته، ورفضه الاستسلام لليأس، ولكن صحته البدنية تدهورت بشكل واضح بسبب التعذيب والجوع وقلة النظافة، حيث كان جسده مليئًا بالجروح والكدمات التي كانت تدل على حجم التعذيب الذي يمر به.
وبينما ظهر اسم عنتر الآغا في أول كشف من كشوفات صفقة تبادل الأسرى، يروي الأسير المحرر اللحظات الصعبة وقت الإفراج عنه بالقول: “كنا معصوبي الأعين، مكبلي الأيدي تعرضنا للإهانات والضرب منذ إخراجنا من السجن إلى أن تم تسليمنا للصليب الأحمر.”
ولم يكن الآغا يعلم أنه في طريقه للحرية، لكن “لحظة رفع العصبة عن عينيه ورؤية النور بعد كل تلك الفترة من الظلام الدامس لا تقدر بثمن”، على حد وصفه.
في الأيام الأولى من حريته، تصف زوجته حالته عنتر الأب لثلاثة أطفال، بأنه كان في حالة من الانفعال الشديد، وكان عصبيًا بشكل غير معتاد، لكن مع مرور الوقت بدأ يتحسن قليلاً، حيث بدأ يستعيد بعضًا من توازنه النفسي، رغم الصدمات التي تعرض لها.
محمد أبو القمبز
أما الأسير محمد أبو القمبز، والذي يعد نموذجًا لهذه المعاناة، حيث تم اعتقاله بشهر فبراير/ شباط 2024، لمدة شهريين متتاليين تعرض فيها محمد لأبشع أنواع التعذيب أثناء فترة اعتقاله في معسكر “سديه تمان”.
يروي محمد لـ” شبكة قدس”: “لم يكن مسموحًا لنا سوى تناول مربى مذابة في الماء، وهو ما جعل جسدي يعاني من نقص شديد في الأملاح، ومع مرور الوقت، بدأ يشعر بالدوار بسبب هذا الحرمان الغذائي.. كنا في مقبرة من العذاب وبدون رحمة”
ويضيف أبو القمبز: ” نقلونا إلى غرف مليئة بالأصوات الصاخبة؛ أصوات بكاء للأطفال والنساء الذين يعانون من الألم والعذاب، بالإضافة إلى أصوات المُعذَبين الذين يطلبون المساعدة، وكانت هذه الأصوات تهز الأعصاب وتزيد من حدة القلق والتوتر”.
ويشير أبو القمبز إلى أن الاحتلال كان يتفنن في ممارسة أساليب التعذيب على الأسرى الفلسطينيين، إحدى الأساليب كانت في تركهم جالسين تحت أشعة الشمس الحارقة معصوبي الأعين لساعات طويلة، كما أطلق جيش الاحتلال الكلاب المتوحشة عليهم، و”هي كلاب أكبر من تلك التي يتعارف عليها الفلسطينيون، مما زاد من حجم الخوف والرهبة”، يصف محمد أبو القمبز.
ويتابع: “لم يكن هناك أي نوع من الأغطية أو الفراش الذي قد يقيهم من البرد أو حرارة الأرض، كانت الظروف داخل الزنازين قاسية للغاية، كما تعرضنا للضرب المبرح على الأيدي والأرجل باستخدام عصي حديدية ذات أشواك حادة، وبعد إطلاق سراحه، بعد شهرين من الاعتقال، ظل محمد يواصل سماع أصوات الصراخ.
وتتكون عائلة محمد من أربعة أطفال، لم يستطع من أخذهم في حضنه بسبب الألم الشديد وآثار التعذيب الواضحة على جسده وهو ما جعله يشعر بتأثيرات نفسية شديدة، حيث اضطر للاعتزال والابتعاد عن الناس، وعزل نفسه بشكل كامل بسبب الأصوات المزعجة التي كانت تلاحقه باستمرار.
وبتابع: “إلا أن عائلتي لم تتركني وحيدًا، بل دعموني وساعدوني في التغلب على هذه الصدمة النفسية، فبعد فترة من العلاج والدعم النفسي، بدأت في التعافي تدريجيًا وأصبحت أكثر قدرة على التكيف مع حياتي اليومية.”
مستطردا بقوله :” لكن آثار التعذيب ستظل تلاحقني في ذاكرتي وهو ما سيبقى يعيشه الكثير من الأسرى الذين عانوا نفس المعاملة”.
وأجرت “نيويورك تايمز” تحقيقًا من داخل قاعدة “سديه تيمان” في جنوب فلسطين المحتلة، أمضى فيها أربعة آلاف معتقل من غزة قرابة ثلاثة أشهر، وبحسب مراسل الصحيفة، فإنه شاهد رجالًا يجلسون في صفوف وهم مكبلو الأيدي ومعصوبو الأعين، بينما يراقبهم الجنود من الجانب الآخر من السياج الشبكي ويمنعهم سجانوهم من الوقوف أو النوم.
ونقلت الصحيفة حينها عن جندي اشترط عدم الكشف عن هويته، أن أحد الأسرى نقل لتلقي العلاج في مستشفى ميداني مؤقت في الموقع وهو يعاني من كسور في العظام، بينما نقل آخر وعاد وهو ينزف من قفصه الصدري، وتوفي خمسة وثلاثون معتقلًا إما في الموقع أو بعد نقلهم إلى المستشفيات القريبة وفقًا لضباط في القاعدة.
وخلص التحقيق إلى أن المعتقلين في “سدي تيمان” عاشوا ظروفًا مهينة، إذ كشف ثمانية محتجزين أنهم تعرضوا للكم والركل والضرب بالهراوات وأعقاب البنادق وجهاز كشف المعادن اليدوي، وقال سبعة منهم إنهم أجبروا على ارتداء حفاضات فقط أثناء استجوابهم. وذكر ثلاثة أنهم تلقوا صدمات كهربائية أثناء استجوابهم فيما كسرت أضلاع اثنين.