أسرار «طوفان الأقصى» استخباراتياً وعسكرياً.. الاحترافية في التخطيط والتنسيق والتمهيد والتنفيذ
سيمضي وقت طويل قبل أن تفرج المقاومة الفلسطينية عن كامل أسرار النجاح الاستخباراتي والعسكري المذهل والمدوي لعملية «طوفان الأقصى»، حتى الآن نحن لم نسمع، ولم يسمع العالم، سوى من الكيان الإسرائيلي «ومن الأميركي والمحللين والمراقبين» عن الأسباب التي قادت إلى تحقيق عملية بغاية الإتقان والدقة والتنسيق الاحترافي في التخطيط والتمهيد والتنفيذ، وأن تكون ناجحة بصورة مبهرة من أول لحظة حتى آخر لحظة، لحظة العودة المظفرة للمقاومين إلى غزة مُكللين بانتصار حاسم لا لبس فيه ولا جدال، فيما غرق الكيان الإسرائيلي في بحر من الفوضى والارتباك والصدمة، من دون أن يستطيع الاستفاقة حتى اليوم الثاني ليدرك حجم الهزيمة التي لحقت به وعلى كل الصعد، ولتصنف هذه الهزيمة بأنها الأقسى تاريخياً بعد خمسين عاماً من حرب تشرين التحريرية 1973.
قد لا نكون بحاجة إلى أن تعرض لنا المقاومة أسرارها.. أحياناً يكفينا، ويكفي المنطقة «ومحور المقاومة» الانتصار الذي حققته.. وربما يكفينا ما يكشفه الكيان الإسرائيلي تباعاً متحدثاً عن حجم الهزيمة، وعن أساليب وقدرات المقاومة في اختراقه على كل المستويات، استخباراتياً وعسكرياً وأمنياً، والأهم على مستوى تكنولوجيا الاتصالات، وإسقاط أسطورة «ريادة الأمن السيبراني» للكيان باعتبارها قوة عصيّة على الاختراق والتعطيل، وبما يذكرنا بأسطورة «الجيش الذي لا يقهر».. ثم قهر في حرب تشرين 1973.
مع ذلك، لا يمكن لفضولنا حيال أسرار هذه النجاح إلا أن يستولي علينا في النهاية، ويجعلنا نبحث عن كل معلومة مهما كانت صغيرة، لمعرفة ما حدث وبما يُكمل صورة الانتصار الذي تحقق.
المقاومة وصلت إلى مستوى عال من الأمن العملياتي «لقد عادوا إلى العصر الحجري» حسب مسؤول إسرائيلي في سبيل عدم تسريب أي معلومة حول ما تخطط له وكيفية التنفيذ وبنك الأهداف
يقول يوئيل غوزانسكي، مسؤول بارز سابق فيما يسمى «مجلس الأمن القومي الإسرائيلي»: ننفق المليارات على جمع المعلومات الاستخبارية.. ثم في ثانية واحدة انهار كل شيء مثل قطع الدومينو. ويضيف: لدينا أجهزة عسكرية استخباراتية من بين أفضل الأجهزة في العالم، ومع ذلك قادتنا الاخفاقات التشغيلية والاستخباراتية إلى حدوث أسوأ اختراق وتعطيل للدفاعات الإسرائيلية منذ نصف قرن. لقد تمكّن «المسلحون»، حسب تعبيره، من عبور الجدار الحديدي واقتحام أكثر من 20 بلدة (مستوطنة) وقاعدة عسكرية إسرائيلية.
كيف حدث ذلك؟
إنه السؤال الكبير الذي لم يستطع الكيان الإسرائيلي تقديم جواب كامل عنه، سواء للداخل أم للولايات المتحدة الأمريكية التي هالها حجم الاختراق والهجوم، مؤكدة أنه لم يكن لديها أي معلومات حول نية المقاومة الفلسطينية بتنفيذ هجوم، وهو الكلام نفسه الذي قاله الكيان.
ماذا في التفاصيل التي تكشفت حتى الآن؟
أولاً: الإخفاق الاستخباراتي
الثابت أولاً أن عملية «طوفان الأقصى» تم الإعداد والتخطيط لها منذ وقت طويل، وهذا الوقت الطويل يمثل مغامرة ومخاطرة في آن واحد لناحية أن تتسرب معلومة من هنا أو هناك، سواء عبر منظومة التنصت والمراقبة الإلكترونية الإسرائيلية، أم عبر العامل البشري، وغير خاف أن الكيان استطاع تجنيد عملاء ومخبرين ومخربين، مثله مثل أي قوة محتلة تبحث عن ضعاف النفوس وتجندهم.
ومع ذلك لم يستطع الكيان الإسرائيلي أن يحصل على معلومة واحدة حول نية المقاومة بشن هجوم، لماذا؟
الإجابة تتركز فيما يتوفر من تسريبات وتحليلات، وهي بدورها قائمة على احتمالات، هذه الاحتمالات تقوم في أولها على أن المقاومة استطاعت الوصول مؤخراً إلى مستوى عال من الأمن العملياتي، حيث إن العلم بالهجوم اقتصر على دائرة ضيقة محددة، وأنه لم يجرِ على الإطلاق استخدام الهواتف أو أي شكل من أشكال الاتصالات الإلكترونية التي كان الكيان سيعترضها باعتباره يراقب جميع الاتصالات في غزة «لقد عادوا إلى العصر الحجري حسب تعبير المسؤولين الإسرائيليين».. وكانوا ينفذون أعمالهم الحساسة في غرف محصنة تحصيناً خاصاً من التجسس التكنولوجي أو تحت الأرض.
بنوا مستوطنة وهمية في غزة حيث جرى التدريب على عمليات إنزال واقتحام وعلى مرآى من الكيان الإسرائيلي الذي أوصلته المقاومة إلى درجة القناعة بأنها لا تخطط ولا تنوي ولا ترغب في هجوم أو مواجهة
الاحتمال الثاني يقوم على أن الموكلين بالمهمة تم إخطارهم قبلها بساعات فقط، وطلب منهم الوصول بأسلحتهم إلى نقطة قريبة من الحدود من دون إعطائهم تفاصيل، وأغلبهم لم يكن على مستوى مجموعات كبيرة، وإنما بأقل عدد ممكن وصل في بعض المجموعات إلى اثنين، وهذا ما كان بالإمكان رصده من الفيديوهات التي كانت تنشرها المقاومة تباعاً لمراحل «طوفان الأقصى»، خصوصاً الطائرات الشراعية المعلقة التي يقودها شخص واحد، هذا عدا أن أغلبهم لم يكن يعلم الهدف النهائي لهذه التعليمات.. كانت المقاومة الفلسطينية تعمل ضمن ألوية وكتائب يعمل عناصرها ضمن أحيائهم المحلية، ومن منازلهم، وبعضها قريب جداً من السياج الحدودي، لذلك لم يكن وجودهم في المواقع القريبة من السياج يثير الشكوك، وكذلك الأمر بالنسبة للجرافات والمركبات والشاحنات الصغيرة التي كانت تمر في حركة سير عادية.
هذا عدا أن فصائل المقاومة وطوال الأشهر الماضية، استخدت تكتيكاً استخباراتياً غير مسبوق، حيث إنها كانت تعمل على تعزيز الانطباع لدى الكيان الإسرائيلي بأنها لا تستعد وليست على استعداد لأي هجوم، وغالباً ما كان مقاتلوها يتدربون على مرآى من الجميع، بما فيهم الكيان الإسرائيلي من دون أن يثيروا شكوكاً وهذا ما اعترف به المسؤولون الإسرائيليون أنفسهم.
كانت «إسرائيل» في حالة عمى مُسبق بعد هجوم سيبراني واسع شنته المقاومة وبما عطّل كل محطات الإنذار والرصد والاتصالات ومراكز التحكم والقيادة
«لقد بنوا مستوطنة وهمية في غزة، حيث جرى تدريب المقاتلين على عمليات اإنزال واقتحام، ومن المؤكد أن إسرائيل رأتهم لكنها كانت مقتنعة تماماً بأن فصائل المقاومة غير متحمسة لخوض مواجهة»، هذا ما قاله ممثل حركة حماس في لبنان أسامة حمدان في تصريحات لوكالة «رويترز».
وفي يوم التنفيذ، أي السبت 7 تشرين الأول 2023، عملت المقاومة على شن «هجوم سيبراني» عطّل محطات الإنذار المبكر والرصد وأنظمة الاتصالات اللاسلكية الإسرائيلية كلها ومختلف مراكز القيادة والتحكم في نطاق لا يقل عن 40 كم، وهذا ما أفقد الوحدات العسكرية الإسرائيلية قدرة الاتصال والتواصل فيما بينها، ما يُفسر الغياب الكامل للجيش الإسرائيلي، خصوصاً سلاح الجو، يُضاف هذا إلى أن فصائل المقاومة عملت على أن تُفقد إسرائيل خاصية التجسس على اتصالات المقاومة يوم التنفيذ، حيث استعملت موجات لا تدري عنها «إسرائيل» أي شيء، ما جعلها في حالة عمى مسبق.
*** ***
ثانياً: الإخفاق التشغيلي
تمثل هذا الإخفاق، حسب مسؤولين أمنيين إسرائيليين، في اعتماد نظام مراقبة الحدود بشكل شبه كامل على الكاميرات وأجهزة الاستشعار والمدافع الرشاشة التي يتم تشغيلها عن بُعد. لقد اعتقد الكيان الإسرائيلي أن الجمع بين المراقبة عن بعد والأسلحة والحواجز فوق الأرض وتحتها، سيمنع فصائل المقاومة الفلسطينية من حفر الإنفاق والعبور من خلالها، وهو ما يقلل من الحاجة إلى تمركز أعداد كبيرة من الجنود على طول الخط الحدودي، هذا عدا أن كل التركيز قبل «طوفان الأقصى» كان قائماً على جبهتين: جبهة الشمال/لبنان، وجبهة الضفة الغربية، حيث كانت المواجهات بين الفلسطينيين وجنود الاحتلال تتصاعد وبصورة يومية.. وعليه كان هناك شبه تجاهل لجبهة غزة.
عملت المقاومة على استغلال أخطر ثغرة أمنية في الجدار الحدودي الإسرائيلي وهي بأنه «كما هو يعمل عن بُعد يمكن بالتالي تدميره عن بُعد».. هاجمت المسيّرات الأبراج ونظام المراقبة ما جعل قادة الكيان منفصلين فعلياً عن الخارج
ثالثاً: الإخفاق العملياتي
بدأ التنفيذ، في المرحلة الأولى، بمسيّرات عملت على تعطيل محطات الاتصال الخليوية وأبراج المراقبة التابعة للجيش الإسرائيلي على طول الحدود ما منع الضباط المناوبين من مراقبة المنطقة عن بُعد بكاميرات الفيديو، وعملت المسيّرات على تدمير مدافع رشاشة يتم التحكم فيها عن بُعد نصبتها «إسرائيل» فوق التحصينات الحدودية ما أدى إلى إزالة وسيلة مهمة جداً لرد الهجوم، وسهّل بالمقابل على مقاتلي المقاومة فتح أجزاء من الجدار الحدودي وهدمه بالجرافات في عدة نقاط، ثم دخولهم بالآلاف. أيضاً سمح ذلك بمهاجمة القواعد العسكرية ثم تجميع قادتها في قاعدة حدودية واحدة ما منع التواصل مع بقية القوات والوحدات الإسرائيلية.
وهنا لا بدّ من عرض ما يمثله الجدار الحدودي الذي اكتمل بناؤه عام 2021 لفهم حجم انتصار المقاومة الفلسطينية. هذا الجدار هو حسب الوصف الإسرائيلي هو سياج ذكي يضم مئات الكاميرات والرادارات وأجهزة الاستشعار، ويتكون من عدة مكونات: جدار خرساني مقوى تحت الأرض مرصع بأجهزة استشعار للكشف عن الأنفاق، وسياج فولاذي بارتفاع ستة أمتار، وشبكة من الرادارات وأجهزة استشعار المراقبة الأخرى، وأسلحة يتم التحكم فيها عن بعد، وفق وزارة الحرب الإسرائيلية. ومن الجانب الإسرائيلي من الجدار أقيمت أبراج مراقبة وكثبان رملية لرصد التهديدات وإبطاء حركة «المتسللين».
لكن نظام التحكم عن بعد كانت به ثغرة أمنية، وهي أنه يمكن تدميره عن بعد، وهذا ما استغلته المقاومة بإرسال مسيرات لمهاجمة الإبراج الخليوية التي تنقل الإشارات من وإلى نظام المراقبة وفقاً لمسؤولين إسرائيليين، كذلك وفقاً للقطات وفيديوهات بثتها المقاومة.
ومن دون هذه الإشارات، بات هذا النظام عديم الفائدة، ولم يتلقَ الجنود المتمركزون في غرف التحكم خلف الخطوط الأمامية إنذارات تفيد بأن السياج قد تم اختراقه، بالإضافة إلى ذلك، تبين أن اختراق الجدار كان أسهل مما توقعه المسؤولون الإسرائيليون، وسمح ذلك لأكثر من 1500 مقاوم باختراق نحو 30 نقطة حدودية، والوصول إلى أربع قواعد عسكرية إسرائيلية على الأقل من دون اعتراضهم.
كل ذلك جعل عملية إيصال خطورة الموقف إلى القيادة العسكرية الإسرائلية العليا أمراً صعباً، ونتيجة لذلك لم يشعر قادة الكيان أن هناك حاجة فورية إلى غطاء جوي سريع وضخم، واستغرق الأمر عدة ساحات حتى استفاقوا إلى هول ما يحدث، ليقوموا بعدها بإرسال سلاح الجو، ولكنّ المقاومين كانوا حينها في طريق عودتهم إلى قطاع غزة حاملين على أكتافهم وفي أيديهم انتصاراً مذهلاً مبهراً، لا يمكن رده ولا التشكيك به، ولا يمكن محوه أو احتواؤه أو التقليل من شأنه مهما كانت النتائج النهائية للهجوم العدواني الوحشي الذي ينفذه كيان الاحتلال على قطاع غزة، ومهما كان الدعم الأميركي لهذا الكيان.
وحسب الخبراء العسكريين فقد اعتمدت عملية طوفان الأقصى على خطة مقسمة إلى أربعة أجزاء، حيث تمثلت الخطوة الأولى بإطلاق 3000 صاروخ من غزة بالتزامن مع عملية التوغل والتي كان من ضمنها استخدام طائرات شراعية معلقة عبر الحدود. وبمجرد هبوط المقاومين عملوا على تأمين المناطق لتتمكن قوات الكوماندوز من اقتحام الجدار الخرساني المحصن إلكترونياً، والذي يفصل غزة عن المستوطنات، وبعد ذلك استخدم المقاومون متفجرات لاختراق الحواجز، ثم عبروها مسرعين على دراجات نارية، فيما عملت الجرافات على توسيع الفجوات في الجدار ليتمكن المزيد منهم من الدخول بسيارات رباعية الدفع والدراجات النارية وحتى مشياً على الأقدام. وهذا فعلياً ما أظهرته الفيديوهات. هناك أمر آخر أيضاً وهو استخدام الكمائن، فعندما حاول جنود الكيان الوصول إلى المستوطنات صُدموا بكمائن نصبها المقاومون ما ضاعف حجم الفوضى والارتباك.
هذا فعلياً ما تم كشفه حتى الآن من أسرار عملية طوفان الأقصى، التي ستبقى لفترة طويلة جداً فوق قدرة الكيان الإسرائيلي (ومعه الولايات المتحدة) على الاستيعاب. تقول صحيفة «الغارديان» البريطانية نقلاً عن مستوطنين غاضبين «كل هذه التكنولوجيا والأمور التي قمنا بها للحفاظ على سلامتنا، وجيشنا هذا، لقد اتضح أن كل هذا لا يعني شيئاً.. هذه البلاد أضحوكة».
وتقول «نيويورك» تايمز الأميركية: «كان هناك إذلال كامل للجيش الإسرائيلي» وبما يفوق ما حدث في تشرين 1973، لقد تمّ غزو إسرائيل في 22 موقعاً خارج قطاع غزة، بما في ذلك مستوطنات يصل عمقها إلى 15 ميلاً داخل إسرائيل» من قِبَل قوّة عسكرية «تعادل قوّتها تلك التي في لوكسمبورغ». ومع ذلك، فإن هذه القوّة الصغيرة «لم تغزُ إسرائيل فحسب»، بل تفوّقت على قوات الحدود الإسرائيلية، وأعادت «الرهائن» الإسرائيليين إلى غزة عبر الحدود نفسها، وهي الحدود التي أنفقت عليها “إسرائيل” ما يقرب من مليار دولار، لإقامة حاجز صُوّر أنه غير قابل للاختراق، في ما يشكّل ضربة قاسية لقوّة الردع الإسرائيلية. (…) كما كانت الفصائل الفلسطينية تُجري تدريبات على طول الحدود مع غزة لشنّ مثل هذا الهجوم «أمام أعين الجيش الإسرائيلي».
وتقول صحيفة «لوتون» السويسرية: يَعدُّ الإسرائيليون الذين يعيشون في «غلاف غزة»، أمواتهم وعدد الذين فقدوهم، إلّا أنّ ما لا يفهمونه هو كيف باستطاعة جيشهم أن يكون غير مجهّز إلى هذا الحدّ. ويقول أحد الإسرائيليين: «لو أنّ أرنباً» كان يقترب من الجدار الفاصل، كان يتمّ إطلاق النار عليه. «وهنا، لا شيء حصل، مئات الرجال عبروا، ولا شيء حصل»؟!.
تشرين – مها سلطان: