فصائل المقاومة الفلسطينية بالضفة الغربية.. بناء يتصاعد بحاضنةٍ شعبية
تُحقق فصائل المقاومة في الضفة الغربية رقمًا صعبًا وقياسيًّا في مواجهة العدوان الإسرائيلي المتواصل عليها منذ عدة أشهر، وتتصاعد حدّتها في إيلام الاحتلال كلّما زاد الحصار الإسرائيلي على مدن وبلدات الضفة، وذلك بشكل إعجازي لا يقل دهشة عن الصمود الأسطوري للمقاومة في قطاع غزة طوال فترة الحرب، برغم العدوان الغير مسبوق على الضفة -لا سيما مدن الشمال- بدعم مفتوح من الإدارة الأمريكية الجديدة التي تقدم كل أنواع الدعم للاحتلال من أجل الوصول إلى ضم الضفة وتهجير أهلها.
صباح أمس الأول أعلنت سرايا القدس -الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي- قيام مجاهديها بتفجير عبوة ناسفة بآلية عسكرية إسرائيلية وإمطار قوات الاحتلال بوابل من الرصاص خلال اقتحامها بلدة قفين شمالي طولكرم.
وخلال الأربع وعشرين ساعة الماضية -ومن خلال رصد البيانات العسكرية المتتالية للفصائل- تواصلت أعمال المقاومة في الضفة الغربية والقدس المحتلة، ووقع 26 عملًا مقاوًما ضد جنود الاحتلال والمستوطنين؛ حيث أشار مركز معلومات فلسطين “معطي” إلى أن أعمال المقاومة تضمنت عملية إطلاق نار واشتباكات مسلحة، و6 عمليات تفجير عبوات ناسفة، وإعطاب آلية عسكرية، وتصدي لاعتداء المستوطنين، إضافة إلى اندلاع مواجهات وإلقاء حجارة في 17 نقطة.
ونفذ مقاومون عمليات تفجير لعبوات ناسفة بآليات جيش الاحتلال في مناطق عدة بمحافظة جنين، منها بلدة اليامون وبلدة السيلة الحارثية وبلدة عرابة، تزامنًا مع اندلاع مواجهات وإلقاء حجارة في مخيم جنين، فيما اندلعت مواجهات وإلقاء حجارة مع قوات الاحتلال في كفر اللبد وبلعا وعنبتا ومخيم نور شمس بمحافظة طولكرم، وامتدت المواجهات إلى بلدة العيساوية بمدينة القدس المحتلة، ومنطقة دير جرير وبيتونيا والبيرة بمحافظة رام الله، وتخلل جميع هذه المواجهات إلقاء حجارة.
وتصدى الفلسطينيون لاعتداءات المستوطنين في منطقة الفاو بمحافظة أريحا، فيما خاض مقاومون اشتباكات مسلحة وفجروا عبوة ناسفة بآليات الاحتلال في البلدة القديمة بنابلس، واندلعت مواجهات في أكثر من منطقة بنابلس، وتركزت في البلدة القديمة ومنطقة الصيرفي وبيت أمرين وتل وصرة، كما شهدت محافظة الخليل أيضًا مواجهات عدة مع قوات الاحتلال، منها مواجهات بمخيم العروب، ومخيم الفوار، ومدينة يطا، وتخلل جميع هذه المواجهات إلقاء حجارة.
وخلال عام ونصف من العدوان الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني والذي بدأ عقب تنفيذ المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة هجومها التاريخي على قوات الاحتلال ومستوطناته في غلاف غزة، انتفضت الضفة الغربية بفصائلها نحو تجميع الصفوف لإشغال العدو الإسرائيلي من خلال تنفيذ هجمات ضده، وهو ما أدى في المقابل بشن الاحتلال عدوانًا متصاعدًا في عدة عمليات، كان من أشدها عملية السور الحديدي في أغسطس/آب 2024 والتي تركزت على مدن شمال الضفة الغربية، وأسفرت عن استشهاد وإصابة واعتقال المئات من المقاومين.
ومنذ 22 يومًا يشن الاحتلال الإسرائيلي عدوانه الأكثر دموية، على الضفة الغربية، منذ بدء الحرب، لا سيما جنين وطولكرم ونابلس، شمل تدمير معظم النية التحتية من مستشفيات وقطاعات خدمية ومرافق عامة، وكذلك مئات المنشآت والمنازل (كُليًّا أو جزئيًّا) وتهجير عشرات الآلاف وقتل أكثر من 60 مواطنًا، وإصابة واعتقال مئات آخرين.
لكن فصائل المقاومة -مع كثافة العدوان وشدة الضربات بحق مجاهديها- تثبت أنها عصية على الانكسار، وأن القتل والمطاردة والحصار لا يزيدونها إلا صلابة وإبداعاً في ابتكار الوسائل التي تؤلم الاحتلال وتُلحق بجيشه -المأزوم- الأذى والضربات التي تُكمل ما بدأه مقاومو غزة من إسقاط هيبته وإفشال مخططاته، فكيف استطاعت هذه الفصائل الوصول إلى تلك الدرجة من الصمود والتحدي والقدرة على مواجهة عدوٍّ يستمد قوته من أعتى قوى العالم سياسيًّا وعسكريًّا واقتصاديًّا؟ ومم تستمد قدرتها على خوض هذا المعترك؟.
وتُعد فصائل المقاومة امتداداً لسياقات تاريخية مرت بها القضية الفلسطينية؛ حيث ظهرت في نهايات الانتفاضة الأولى عام 1987، تشكيلات مقاومة مثل “الجيش الشعبي” و”الفهد الأسود” و”صقور فتح” وجميعها كان يتبع حركة التحرير الوطنية الفلسطينية (فتح)، ومع اندلاع ما يُعرف بالانتفاضة الفلسطينية الثانية (28 سبتمبر/أيلول 2000)، عقب دخول السياسي الإسرائيلي أرييل شارون باحات المسجد الأقصى، انضوت كلّ التشكيلات تحت اسم كتائب شهداء الأقصى كجناح عسكري موحّد لحركة فتح.
ومع تأسيس الشيخ أحمد ياسين حركة المقاومة الإسلامية (حماس) عام 1987، طورت الحركة أول جهاز عسكري لها، بعد أن كانت عبارة عن مجموعة من الخلايا السرية، واطلقت عليه اسم “المجاهدون الفلسطينيون”، وبحلول عام 1991 غيرت الحركة الاسم إلى “كتائب عزالدين القسام”، نسبة إلى الشيخ المجاهد عز الدين القسام (سوريّ الأصل)، والذي يُعد أحك أبرز رموز المقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال الإسرائيلي في القرن الماضي.
ونشأت كذلك في عام 1987 كتائب “النسر الأحمر”، والتي كانت تعد أحد الأجنحة العسكرية التابعة لـ “الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.
وبرز اسم “سرايا القدس” في قطاع غزة ثم الضفة الغربية، كجناح عسكري لحركة الجهاد الإسلامي، التي تأسست في عام 1982 تحت اسم كتائب “سيف الإسلام”، ومع مطلع التسعينيات، غيّرت قيادة “الجهاد الإسلامي” حينها بقيادة محمود عرفات الخواجا، اسم الجناح العسكري إلى “القوى الإسلامية المجاهدة” التي عُرفت اختصاراً باسم (قسم)، وصولاً إلى اسمها الحالي في مطلع التسعينيات.
وشهد عام 2022 ارتفاعاً ملحوظاً في الاشتباكات المسلحة في مدن الضفة، ونشر مركز “معطى” للمعلومات الفلسطينية إحصائيات حول “أعمال المقاومة” في النصف الأول من عام 2023، ووفق هذه المعلومات نفذت المقاومة 6704 عملية في مدن الضفة الغربية، وقد لوحظ في الضفة الغربية في العام 2022، نمط جديد من أنماط المواجهة المسلحة؛ حيث ظهرت الكتائب الصغيرة الحجم، التي بدأت في شمال الضفة، وتكررت اشتباكاتها مع الجيش الإسرائيلي، وانتقلت بوتيرة أقل إلى جنوبها ووسطها.
وبرزت هذه الكتائب بالتزامن مع عمليات اغتيال نفذتها إسرائيل ضد “قادة ميدانيين” من الفصائل الفلسطينية، وتصاعد المواجهة الفردية في الضفة أو ما يُعرف بـ”الذئاب المنفردة”.
ويقول الخبير الأمني إيهاب الحباشنة: “إن المجموعات المسلحة الجديدة تباينت في مسار تشكّلها وتطورها، فشهدت بعض نماذجها تطوراً ملحوظاً وتراكماً عملياتياً، انعكس على الخبرة، والقدرة على الصمود، والتنسيق المشترك في المواجهة في ظل التحديات التي تتعرض لها، فيما تراجعت بعض المجموعات على الرغم من البداية الفاعلة لظهورها، بينما ظهر بعضها إعلامياً ثم اختفى”.
ويضيف الحباشنة في تصريح سابق لـ “بي بي سي”: “استطاعت المجموعات المسلحة الجديدة، البارزة منذ العام 2022، خلق نمط يختلف عن البنية التنظيمية للأحزاب الفلسطينية التقليدية، وشكّلت قيادة مستمدة من الميدان (القائد الميداني)، واكتسبت حاضنة شعبية واسعة، على الرغم من حداثة نشأتها وطابعها الشبابي”.
وظهر نمط جديد للعمل الميداني المشترك في العام 2023؛ إذ ازداد عدد كتائب المقاومة، وازداد تنسيق مجاهديها دون إلغاء ارتباطها بتنظيماتها الأصلية، رغم انتماءاتها الفكرية المختلفة، والتي تتنوع بين التيار الإسلامي (بمختلف توجهاته)، وكذلك الفكر اليساري الاشتراكي والشيوعي.
وتستمد هذه الفصائل قوتها ودعمها في المقام الأول من الحاضنة الشعبية؛ حيث خرج مجاهدوها من عوائل لها تاريخ في النضال ومقاومة المحتل، إضافة إلى أن كل استطلاعات الرأي التي تجريها المراكز الحقوقية تؤكد التأييد الشعبي الجارف للتعامل مع الاحتلال الإسرائيلي من خلال المقاومة ورفض كل مسارات التسوية التي تتبناها السلطة.
برأي الحباشنة، هناك عدّة عوامل لعبت دوراً مهماً في توسّع ظاهرة المجموعات المسلحة الجديدة، كان أهمها تصاعد وتيرة الاقتحامات للمقدسات الإسلامية والتوسع الاستيطاني والقتل والاعتقال وتشجيع اليمين المتطرف في إسرائيل لاعتداءات المستوطنين -غير المُعترف بوجودهم دولياً- على المناطق الفلسطينية”.
وعلى الرغم من قيام الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة، تمارس عملاً تكميليًّا لممارسات الاحتلال في الضفة، من خلال التنسيق الأمني الذذي يؤدي بدوره إلى ملاحقة المقاومين، والذي بلغ ذروته الشهرين الماضيين؛ حيث كثفت الأجهزة مداهماتها لمدينة جنين، ما أدى لاستشهاد عدد من مجاهديها برصاص تلك العناصر، على الرغم من ذلك، تقف فصائل المقاومة حجر عثرة أمام كل تلك المخططات الإسرائيلية التي تهدف لإفراغ الضفة من مقاوميها لتسهيل التوسع الاستيطاني وتهجير أهلها.