خليل الحية لا يفاوض.. بل يفضح منطق الاستعمار الجديد
في لحظة سياسية شديدة التعقيد وعالية الحساسية في خضم التحوّلات الكُبرى لنظام الهيمنة الغربية، تقدّمت حركة حماس بمبادرة استراتيجية تُعيد رسم معالم المشهد السياسي من داخل ساحة المعركة، لا من خارجها. المبادرة، التي جاءت عبر تصريح مدروس وهادئ، قلبت الطاولة على النظام الصهيوني، لا فقط كقوة عسكرية محتلة، بل كبنية سردية تستند إلى شرعية مفترضة في أعين العالم.
لم يكن ما قيل مجرّد تصريح سياسي عبثي، بل خطوة محسوبة ضمن تكتيك تحريري مزدوج: أولًا، تحرير الخطاب الفلسطيني من ردّ الفعل إلى المبادرة، وثانيًا، تفكيك الجبهة الاستعمارية من الداخل عبر زجّها في مواجهة مع ذاتها، مع خطابها، ومع جمهورها. حين تعلن حماس – بكل وضوح – استعدادها للدخول في مفاوضات شاملة تُنهي الحرب، تشمل وقف العدوان، تبادل الأسرى، وانسحاب الاحتلال، فإنها تعيد صياغة معادلة الحق والباطل. تصبح الرواية الغربية فجأة عارية من أدواتها: من يبدو الآن رافضًا للسلام؟ من الذي يعرقل أي اتفاق؟
نتنياهو في الزاوية: انهيار منطق “الصفقات الجزئية”
الاستراتيجية التي اعتمدها الاحتلال، منذ اللحظة الأولى، كانت تقوم على إطالة أمد الحرب بجرعات من “التهدئة المؤقتة”. هذا الشكل من المراوغة الزمنية هدفه إبقاء غزة في حالة إنهاك دائم: لا هدنة، ولا نصر، بل استنزاف. والغاية واضحة: إنهاك المعنويات، تفكيك البنية الاجتماعية، كسر الإرادة الشعبية.
لكن عندما ترفض المقاومة أي صفقة تجزيئية وتطالب باتفاق شامل، فإنها تُجبر الخصم على كشف نواياه الحقيقية. لم تعد المسألة “رهائن” كما يُسوّق لها، بل أصبحت مسألة إبقاء الحرب بوصفها المشروع السياسي الوحيد المتاح لحكومة مأزومة. فماذا سيفعل نتنياهو؟ إما أن يوقف الحرب ويُقر بفشل أهدافه المعلنة، أو أن يواصل القتل دون أي غطاء “أخلاقي”. إنه مأزق من النوع الذي لا يخرج منه سوى المنهزم أو المنفضَح.
انكشاف الإمبراطورية الإعلامية
الخطاب الغربي الذي ساد طوال الأشهر الماضية بُنِي على فرضية أن حماس ترفض الحلول، وأن “إسرائيل” تدافع عن نفسها. ومع هذه المبادرة، سقطت هذه المعادلة. صار لزامًا على الإعلام الغربي أن يواجه التناقض: كيف تبرر استمرار المجازر في ظل استعداد المقاومة لإنهاء الحرب؟ ما هو التبرير السياسي أو الإنساني لرفض اتفاق متكامل يُعيد الأسرى إلى ديارهم، ويُنهي العدوان؟
المسألة تتجاوز التغطية الخبرية. إنها لحظة فضح للبنية الدعائية التي غذّت آلة الحرب: سردية “الدفاع عن النفس”، و”رفض السلام”، و”محاربة الإرهاب”. المبادرة الفلسطينية تُجبر تلك المنظومة الإعلامية على مراجعة خطابها، أو على الأقل، على مواجهة حالة التمزق بين ما تدّعيه من مبادئ، وما تدافع عنه من مجازر.
الداخل “الإسرائيلي”: تفكك الجبهة وتآكل الهيبة
أهم نتائج المبادرة ليست خارج “إسرائيل”، بل في عمقها الداخلي. لأن منطق نتنياهو في التفاوض لم يكن يومًا مبنيًا على الحل، بل على إدارة الأزمة وتوظيفها سياسيًا. ومع الوقت، تحوّلت قضية الأسرى من ورقة ضغط ضد حماس، إلى عبء داخلي على حكومته. فالجمهور بدأ يُدرك أن بقاء الرهائن في غزة لم يعد نتيجة لتعنت المقاومة، بل لرفض واضح من حكومته لإبرام صفقة شاملة.
هذا التغير أحدث شقوقًا في جدار الإجماع الصهيوني. لم يعد الصراع بين “يسار” و”يمين”، بل بين من يريد إنهاء الحرب بأي ثمن، ومن لا يستطيع تصور هزيمة معنوية أمام الفلسطينيين. ومع كل يوم يمر، تتزايد الأصوات التي تتهم الحكومة بالمقامرة بمصير المدنيين والرهائن لأجل أجندات شخصية وحسابات بقاء سياسي.
خدعة “نزع السلاح”: إعادة تدوير المشروع الاستعماري
الطرح المستمر حول “نزع السلاح” لا يمكن فصله عن جوهر الرؤية الكولونيالية. إنه ليس مطلبًا لحماية المدنيين، بل شرط استعماري لإخضاع من تبقّى من مقاومين. هذا النوع من الشروط ظهر مرارًا في التاريخ الإمبريالي: لا تفاوض إلا بعد الاستسلام. وكأن المشكلة هي سلاح المقاومة، لا الاحتلال نفسه.
لكن خطاب المقاومة جاء واضحًا: لا مجال لنزع السلاح طالما هناك احتلال. فالسلاح ليس مشروعًا توسعيًا، بل أداة دفاع في سياق كولونيالي مفتوح. والتجارب التاريخية تثبت ذلك. الاستعمار لا يُهزَم عبر التنازلات، بل عبر الصمود والتفاوض من موقع قوّة. هذه هي المعادلة التي تسعى حماس لترسيخها، لا فقط ميدانيًا، بل رمزيًا أيضًا.
الأقصى… الهدف المستتر للعدوان
في الخلفية، يجري مشروع آخر لا يقل خطورة: تهويد المسجد الأقصى، وإعادة تشكيل معالم السيطرة الرمزية على القدس. اقتحام المسجد خلال “عيد الفصح”، وبحماية عسكرية، يكشف أن المشروع الصهيوني لا يفصل بين الجغرافيا والعقيدة، ولا بين الحرب والمعنى. فكما يُستهدف الطفل في غزة بوصفه كيانًا يُهدد مشروع النقاء العرقي، يُستهدف الأقصى كرمز لوجود حضاري مقاوم.
الرسالة واضحة: الاحتلال يريد احتكار الرموز، كما يحتكر الأرض. إنه لا يقاتل فقط لأجل الأمن، بل لأجل محو الذاكرة.
الفاعل الأميركي: الحَكم الذي يصمت حين يُقتل اللاعب
من يملك قرار وقف الحرب؟ من يملك النفوذ العسكري، والسياسي، والمالي على تل أبيب؟ الجواب واضح. لكن السؤال هو: لماذا لا يُستخدم هذا النفوذ؟ هل الولايات المتحدة عاجزة عن الضغط؟ أم أنها شريكة في اللعبة، تُدير المشهد من الخلف وتستثمر في استمراره؟
المواقف الأخيرة التي صدرت من واشنطن، حتى وإن حملت بعض الليونة، تُشير إلى ازدواجية مألوفة: خطاب دعم للسلام من جهة، وصمت عن الجرائم من جهة أخرى. وهذه ليست ازدواجية بريئة. إنها جزء من النظام العالمي الذي لا يرى في الفلسطيني إنسانًا يستحق الحياة، ما لم يتخلَّ عن مقاومته.
نحو تعريف جديد للأخلاق
إن المبادرة التي قدّمتها حماس لا تُقاس فقط بمدى قابليتها للتنفيذ، بل بقدرتها على فضح الخطاب العالمي. لقد وضعت الاحتلال في موقع المعتدي، وأجبرت العالم على أن يرى. الخيار الآن ليس بين الحرب والسلام، بل بين الحقيقة والكذب.
إما أن يعترف النظام الدولي بأن أصل الأزمة هو الاحتلال، أو أن يواصل التواطؤ باسم الواقعية السياسية. أما غزة، فقد قالت كلمتها: لا مفاوضات من موقع الخضوع، ولا تهدئة على حساب الكرامة. والمقاومة، في هذا السياق، ليست سلاحًا فقط، بل فكرة، وكرامة، وخطاب مقلق لكل نظام استعماري يُخفي وجهه خلف قناع الحداثة.
بهذا، تضع حماس العالم أمام خيارين: إما أن يعترف بأن الاحتلال هو جوهر الأزمة، أو أن يواصل إنتاج الكذب.