الغزاويون لا يشبهون أحداً.. حتى تُضرب الأمثال!

مهدي عقيل

وتستغرب الأوساط الإسرائيلية رفض مصر والأردن لاستقبال أهالي غزة، وتصف تصرّفهما بغير المنطقي “في ضوء القانون الدولي، الذي يُلزم الدول قبول اللاجئين الفارّين من الحروب، بمن في ذلك لاجئو غزة”. وهذا الرفض بالمناسبة لا يتعلّق بضرورة الإبقاء على أهالي غزة في ديارهم وحسب، إنما الأمر يتعلّق بأمنهما القومي ومستقبل الحكم فيهما حتى. ولا سيما الأردن الذي رسمت له الصهيونية منذ نشأتها الأولى لأن يكون البلد البديل للفلسطينيين. بل أكثر من ذلك، قال الأسبوع الماضي، وزير الأمن القومي الإسرائيلي المستقيل، إيتمار بن غفير، “الأردن جزء من دولة إسرائيل الكبرى”.
باختصار، مسألة تهجير الغزاويين بالنسبة لمصر والأردن تعني لهما معركة “حياة أو موت”، وبالتالي، الأمر أبعد بكثير من حرمانهما للمساعدات الأميركية غير السخيّة.
ضربوا أمثالاً كثيرة عن التهجير أو الترحيل (الترانسفير)، ووضعوها في سياق الأعمال المفيدة للبشرية، والتي أنقذت شعوباً متعددة عبر التاريخ الحديث على الأقل. ونال أصحابها أرفع الجوائز الدولية، ومنها نوبل للسلام. لكن غاب عن بال هؤلاء بأنّ أهالي غزة ليسوا الهنود الحمر، الذين أقرّ الكونغرس بتهجيرهم عام 1830 ليحلّ مكانهم أصحاب البشرة البيضاء. وأنّ أهالي غزة ليسوا اليونانيين الذين رُحِّلوا من تركيا، ولا المسلمين الذين رُحِّلوا مقابلهم، من اليونان عام 1923.
لا يقارن الغزاويون بـ 2,5 مليون شخص، جرى ترحيلهم من صربيا، وكرواتيا والبوسنة وكوسوفو، ليحلّ السلام بعد تكدّس جبال من الجماجم هناك في يوغوسلافيا السابقة.
ولا تنطبق عليهم اتفاقية بوتسدام (1945) التي أقرّت طرد ما لا يقلّ عن 13 مليون ألماني من تشيكوسلوفاكيا وبولندا والبلقان. ومُنحت الجوائز والتكريمات لمهندسي تلك الاتفاقية، ونستون تشرشل فرانكلين وروزفلت وجوزف ستالين. ولا تنطبق على غزة أيضاً، “اتفاقيات فيتنام” التي قضت بترحيل أربعة ملايين شخص من فيتنام ولاوس وكمبوديا.
وكان اللافت أكثر، قياس العقول المتحجّرة والمتطرّفة غير المبني على أيّ قواعد منطقية، والتي وصل بها الأمر بأن تُشبّه حالة أبناء غزة بعتاة المستوطنين الـ(7000) الذين “رُحِّلوا” من سيناء المحتلة (1967-1978)، إلى فلسطين المحتلة. ووجدت تلك العقول أوجه شبه أيضاً، بين خطة الانفصال التي نفّذها أريئيل شارون عام 2005، والتي تضمّنت ترحيل 8000 مستوطن من غزة و600 من الضفة الغربية، مع خطة ترامب المزمع تنفيذها.
الترحيل (الترانسفير) هو ممارسة شائعة لإنهاء النزاعات الدموية التي لا نهاية لها. لكن ينطبق الترحيل على المحتل أو المستوطن وليس على أصحاب الأرض. حلّ النزاعات يقوم عادة على إعادة الوضع عمّا كان عليه قبلها.
فليس من المنطقي حلّ مسألة ضيق مساحة “إسرائيل” التي تشغل بال رئيس بلاد “العم سام”، أو بالأحرى، مسألة الديموغرافيا في فلسطين على حساب أصحاب الأرض، بحجة أنه لا يجوز حشر 15 مليون يهودي وفلسطيني بين البحر ونهر الأردن، في الوقت الذي تحيط تلك المنطقة آلاف الهكتارات من الصحاري الخالية من السكان، سواء لجهة الشرق في الأردن، أو لناحية الغرب، في سيناء التي تكبر غزة بـ 167 ضعفاً. وعدد سكان هذه المنطقة هو ثلث عدد سكان غزة أو جنوب “إيلات”، في المملكة العربية السعودية التي تتعدّى فيها مساحة الربع الخالي الـ 650 ألف كيلومتر مربّع. وقد أشار إليها رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو بدعوته المملكة إلى توطين أهالي غزة على أراضيها.
كلّ ما يسوّقه العدو وأنصاره في هذا العالم، يخفي حقيقة رئيسة في الصراع العربي الإسرائيلي، أو الأصح، بعد أن بات السواد الأعظم من العرب في مكان آخر من الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، بأنّ الإسرائيليين استجلبوا من أربع رياح الأرض، بعد أن ضاق العالم الغربي بعجرفتهم وسلوكهم المغاير لكلّ البشر، فوجد ضالته على حساب الفلسطينيين.
كان الحري بكلّ المنشغلين بأمن الإسرائيليين وسلامتهم، أن يُعيدوا هؤلاء المحتلين من حيث أتوا، فمن لم تطقهم بلدانهم الأصلية، بطبيعة الحال لم ولن تتقبّلهم أرض الغير مهما طال الزمن وشريط التضحيات.
يستغرب كثيرون صمود الغزيّين وتشبّثهم في أرضهم، وتقديم أنفسهم أضاحي على مذبح فلسطين. 15 شهراً لم تحط من إرادتهم وعزيمتهم على الصمود، يبدو أنه يفوت هؤلاء بأنّ فلسطين ليست جغرافيا أو ملكية عقارية وحسب، إنما فلسطين هوية عميقة مستمدّة من عمق التاريخ، ولا ينطبق ارتباط الفلسطينيين بها على ارتباط أيّ شعب بأرضه في هذا العالم، وإلا لِمَ ظلت قضيتهم حيّة إلى أيامنا هذه، بل أمست أكثر حضوراً وتأثيراً بعد عملية “طوفان الأقصى”. ولا يعني أنّ الفلسطيني يقوى على البقاء 15 سنة في العراء، إذا ما استمرّت الولايات المتحدة و”إسرائيل” في عرقلة عملية الإعمار. لا يمكننا أن نطلب منه المستحيل، الذي اقترب منه كثيراً في مواجهة الإبادة الجماعية والتدمير الممنهج.
وعليه، المطلوب من العرب أن لا يكتفوا بالاجتماعات وإصدار البيانات المندّدة والمستنكرة، لا بدّ من أفعال على الأرض، تسعى إلى تحريك العالم بدوله ومؤسساته الأممية والدولية والإقليمية، لتجنّب “البركان الترامبي” الذي سيبقى متوقّداً طوال السنوات الأربع المقبلة. مدة زمنية طويلة جداً رغم قصرها قياساً بعمر الزمن، ولا سيما مع “مجنون البيت الأبيض” حيث إنّ كلّ تصرّفاته كانت دراماتيكية وكارثية من خارج الصندوق.

قد يعجبك ايضا